فصل: تفسير الآيات رقم (1- 7)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


سورة الجن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا ‏(‏1‏)‏ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ‏(‏2‏)‏ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ‏(‏3‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ‏(‏4‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏5‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ‏(‏6‏)‏ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قد أجمعوا على فتح ‏(‏أنه‏)‏؛ لأنه نائب فاعل «أوحى»، و‏{‏وَأَلَّوِ استقاموا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 16‏]‏ و‏{‏وَأَنَّ المساجد‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 18‏]‏ للعطف على ‏{‏أنه استمع‏}‏ ف «أن» مخففة، و‏{‏أَن قَدْ أَبْلَغُواْ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 28‏]‏ لتعدّي «يعلم» إليها، وكسر ما بعد فاء الجزاء، وبعد القول، نحو‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 23‏]‏ و‏{‏قالوا إنّا سمعنا‏}‏؛ لأنه مبتدأ محكي بعد القول‏.‏ واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من ‏{‏أنه تعالى جَدٌ ربنا‏}‏ إلى‏:‏ ‏{‏وأنَّا منا المسلمون‏}‏، ففتحها الشامي والكوفيّ ‏[‏غير‏]‏ أبي بكر؛ عطفاً على ‏{‏أنه استمع‏}‏، أو على محلّ الجار والمجرور في ‏{‏آمنا به‏}‏ تقديره‏:‏ صدّقناه وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربنا ‏{‏وأنه كان يقول سفيهنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخره، وكسرها غيرُهم عطفاً على ‏{‏إنّا سمعنا‏}‏، وهم يقفون على آخر الآيات‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد لأمتك‏:‏ ‏{‏أُوحي إِليَّ أنه استمع‏}‏ أي‏:‏ الأمر والشأن استمع للقرأن ‏{‏نفر من الجن‏}‏، وهم جن نصيبين، كما تقدّم في الأحقاف، وكانوا متمسكين باليهودية‏.‏ والنفر ما بين الثلاثة والعشرة‏.‏ والجن عاقلة خفية، يغلب عليهم الناري والهوائية، وقيل‏:‏ روح من الأرواح المجرّدة‏.‏ وفيه دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر بهم وباستماعهم، ولم يقرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته، فسمعوها، فأخبره الله تعالى بذلك، فهذه غير الحكاية التي حضر معهم، ودعاهم، وقرأ عليهم سورة الرحمن، كما في حديث ابن مسعود‏.‏ ‏{‏فقالوا‏}‏ أي‏:‏ المستمِعون حين رجعوا إلى قومهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا سمعنا قرآناً‏}‏؛ كتاباً ‏{‏عجباً‏}‏؛ بديعاً، مبايناً لكلام الناس في حُسن النظم ورقّة المعنى‏.‏ والعجب‏:‏ ما يكون خارجاً عن العادة، وهو مصدر وصف به للمبالغة‏.‏

‏{‏يهدي إِلى الرُّشْد‏}‏؛ إلى الحق والصواب، ‏{‏فآمنّا به‏}‏ أي‏:‏ بذلك القرآن، ولمَّا كان الإيمان به إيماناً بالله وتوحيده، وبراءةً من الشرك، قالوا‏:‏ ‏{‏ولن نُشْرِكَ بربنا أحداً‏}‏ من خلقه، حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد، ويجوز أن يكون الضمير في «به» لله تعالى؛ لأنَّ قوله‏:‏ ‏(‏بربنا‏)‏ يُفسّره‏.‏

‏{‏وأنه تعالى جَدُّ ربِّنا‏}‏ أي‏:‏ ارتفع أو تنَزّه عظمة ربنا، أو سلطانه أو غناه، يُقال‏:‏ جَدّ فلان في عيني إذا عَظُم ومنه قول عمر‏:‏ كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ في عيننا، أي‏:‏ عظم في عيوننا، ‏{‏ما اتخذَ صاحبةً‏}‏؛ زوجة ‏{‏ولا ولداً‏}‏ كما يقول كفار الجن والإنس، والمعنى‏:‏ وصفوه بالاستغناء عن الصاحبة والولد؛ لعظمته وسلطانه، أو لغناه، وقُرىء «جَدًّا» على التمييز، أي‏:‏ أنه تعالى ربنا جَداً، وقُرىء بكسر الجيم أي‏:‏ تنزّه صِدق ربوبيته، وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد، وذلك أنهم لمَّا سمعوا القرآن، واهتدوا للتوحيد والإيمان، تنبّهوا للخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيهه تعالى بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد فاستعظموه ونزّهوه تعالى عنه‏.‏

‏{‏وأنه كان يقول سفيهُنا‏}‏ أي‏:‏ جاهلنا من مردة الجن، أو إبليس؛ إذ ليس فوقه سفيه، ‏{‏على الله شططاً‏}‏ أي‏:‏ قولاً ذا شطط أي‏:‏ بُعدٍ وجورٍ، وهو الكفر؛ لبُعده عن الصواب، من‏:‏ شطت الدار‏:‏ بَعُدت، أو‏:‏ قولاً مجاوزاً للحدّ، بعيداً عن القصد، أو هو شطط في نفسه؛ لفرط بُعده عن الحق، وهو نسبة الصاحبة والولد لله تعالى‏.‏ والشطط‏:‏ مجاوزة الحدِّ في الظلم وغيره‏.‏ ‏{‏وأنَّا ظننا أن لن تقول الإِنسُ والجنُّ على الله كذباً‏}‏ أي‏:‏ قولاً كذباً أو مكذوباً فيه، أي‏:‏ كان في ظننا أنَّ أحداً لن يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد، فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه حتى تبيّن لنا بالقرآن كذبهم‏.‏

‏{‏وأنه كان رجالٌ من الإِنس يعوذون برجالٍ من الجن‏}‏، كان الرجل من العرب إذا نزل بوادٍ قفرٍ وخافَ على نفسه، يقول‏:‏ أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم، فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا‏:‏ سُدنا الإنس والجنّ، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فزادوهم‏}‏؛ زاد الإنسُ والجنَّ باستعاذتهم بهم ‏{‏رَهَقاً‏}‏‏:‏ طغياناً وسفهاً وتكبُّراً وعتواً، أو‏:‏ فزاد الجنُّ والإنسَ رهقاً‏:‏ إثماً وغيًّا؛ بأن أضلوهم، حتى استعاذوا بهم‏.‏ ‏{‏وأنهم‏}‏ أي‏:‏ الجن ‏{‏ظنوا كما ظننتم‏}‏ يا أهل مكة ‏{‏أن لن يبعثَ اللهُ أحداً‏}‏ بعد الموت، أي‏:‏ إنَّ الجن كانوا يُنكرون البعث كإنكاركم يا معشر الكفرة، ثم بسماع القرآن اهتدوا، وأقرُّوا بالبعث، فهلاّ أقررتم كما أقرُّوا‏؟‏‏!‏ أو‏:‏ ظنوا ألن يبعث اللهُ رسولاً من الإنس‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ كما كانت تسمع الجنُّ من الرسول صلى الله عليه وسلم وتأخذ عنه، كذلك تسمع من خلفائه من الأولياء والعلماء الأتقياء فهي تحضر مجالسَ الذكر والتذكير والعلم، على حسب ما يطلب كلُّ واحد منهم، وقد حدثني بعضُ أصحابنا أنه بات في موضع خالٍ، فأتاه رجلان من الجن وتحدّثا معه، وأخبره أنهما من الجن نازلان مع قومهما في ذلك الموضع، وقالا له‏:‏ إنا لنحضر مجلس شيخكما أي‏:‏ مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه ونسمع منه‏.‏ ه‏.‏ ففيهم الأولياء والعلماء، والقُراء، وسائر الطرائق، كما يأتي في قوله‏:‏ ‏{‏طرائق قِدداً‏}‏‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ خلق اللهُ بعض أوليائه من الجن، لهم أرواح ملكوتية، وأجسام روحانية، وهم إخواننا في المعرفة، يُطيعون اللهَ ورسوله، ويُحبون أولياءه، ويستنُّون بسنّة نبينا صلى الله عليه وسلم، ويسمعون القرآن، ويفهمون معناه، وبعضهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا كلام الحق منه شِفاهاً، وخضعوا له إذعاناً، واستبشروا برَوح الله، ورَوح قضائه استبشاراً‏.‏ ه‏.‏ قلتُ‏:‏ ومعرفة الآدمي أكمل؛ لاعتدال بشريته وروحانيته، والجن الغالب عليه الانحراف للطافة بشريته واحتراقها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يهدي إلى الرُشد‏}‏، قال الجنيد‏:‏ يهدي إلى الوصول إلى الله، وهو الرشد‏.‏ ه‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ يهدي إلى معدن الرشد، وهو الذات القديم‏.‏

ه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنه تعالى جَدُّ ربنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، أي‏:‏ تنزهت عظمة ربنا الأزلية، عن اتخاذ الصاحبة والولد، إنما اتخاذ الصاحبة والولد من شأن عالم الحكمة، ستراً لأسرار القدرة، فافهم‏.‏ وقال الجنيد‏:‏ ارتفع شأنه عن أن يتخذ صاحبة أو ولداً‏.‏ ه‏.‏ والشطط الذي يقوله السفيه الجاهل هو وجود السوي مع الحق تعالى، وهو أيضاً الكذب الذين ظنّت الجن أن لن يُقال على الله، ولذلك قال الشاعر‏:‏

مُذْ عَرفْتُ الإِلَهَ لَمْ أَرَ غَيْراً *** وكَذّا الْغَيْرُ عندنا مَمنوعُ

وقال بعض العارفين‏:‏ لو كُلفت أن أشهد غيره لم أستطيع، فإنه لا شيء معه حتى أشهده‏.‏ ه‏.‏ وكل مَن استعاذ بغير الله فهو ضال مضل، وكل مَن أنكر النشأة الأخرى فهو تالف ملحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ‏(‏8‏)‏ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله، حاكياً عن الجن‏:‏ ‏{‏وأنَّا لمسنا السماءَ‏}‏ أي‏:‏ طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها، واللمس،‏:‏ المسُ، استعير للطلب لأن الماسّ طالب متعرّف، ‏{‏فوجدناها مُلِئتْ حَرَساً‏}‏ أي‏:‏ حُراساً، اسم جمع، كخدم، مفرد اللفظ، ولذلك قيل‏:‏ ‏{‏شديداً‏}‏ أي‏:‏ قوياً، أي‏:‏ وجدنا جمعاً أقوياء من الملائكة يحرسونها، ‏{‏و‏}‏ ملئت أيضاً ‏{‏شُهباً‏}‏‏:‏ جمع شهاب، وهي الشعلة المقتبسة من نار الكواكب، ‏{‏وأنَّا كنا نقعُدُ منه‏}‏ أي‏:‏ من السماء، قبل هذا الوقت، ‏{‏مقاعِدَ للسمعِ‏}‏، لاستماع أخبار السماء، يعني‏:‏ كنَّا نجد بعض السماء خالية من الحرس والشُهب قبل المبعث، فنقعد نسترق، وقد فسّر في الحديث صفة قعود الجن، وأنهم كانوا واحداً فوق واحد، فمتى احترق الأعلى طلع الذي تحته مكانه، فكانوا يسترقون الكلمة، فيُلقونها إلى الكُهان، ويزيدون معها، ثم يزيد الكُهانُ للكلمة مائة كذبة‏.‏

هذا قبل المبعث، وأمّا بعده فأشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏فمَن يستمعِ‏}‏؛ يريد الاستماع ‏{‏الآنَ‏}‏ بعد المبعث ‏{‏يجدْ له شِهَاباً رصداً‏}‏ أي‏:‏ شهاباً راصداً له ولأجله، يصده عن الاستماع، أو هو اسم جمع لراصد، على معنى‏:‏ ذوي شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشُهب، ويمنعونهم من الاستماع، والجمهور على أن ذلك لم يكون قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ كان الرجم في الجاهلية، ولكن الشياطين كانت تسترق في بعض الأوقات، فمُنعوا من الاستراق أصلاً بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قلت‏:‏ وهذا هو الظاهر، وأنّ الرمي كان موجوداً قبل البعثة، إلاَّ أنه قليل، وأشعار الجاهلية محشوة بذلك‏.‏ انظر الثعلبي‏.‏ ورُوي في بعض الأخبار‏:‏ أنّ إبليس كان يسترق السمع من السموات، فلما وُلد عيسى عليه السلام وبُعث، حُجبت الشياطين عن ثلاث سموات، فلما وُلد محمد صلى الله عليه وسلم حُجبت عن السموات كلها، وقُذفت بالنجوم، ه‏.‏

وذكر أبو جعفر العقيلي، بإسناد له إلى لهب بن مالك، قال‏:‏ حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت عنده الكهانة، فقلت‏:‏ بأبي أنت وأمي؛ نحن أول مَن عرف حراسة السماء، ورصد الشياطين، ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم، وذلك أنا جئنا إلى كاهن لنا، يُقال له «خطل»، وكان شيخاً كبيراً، قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سننة، فقلنا‏:‏ يا خطل؛ هل عندك علم بهذا النجوم التي يُرمى بها، فإنّا قد فزعنا منها، وخفنا سوءَ عاقبتها، فقال‏:‏ ائتوني بسَحَر أُخبركم الخبر، ألِخَيْر أم ضرر، أم لأمن أو حذر، فأتيناه غداً عند السحَر، فإذا هو قائم على قدميه، شَاخص إلى السماء بعينيه، فناديناه‏:‏ يا خطل، فأومأ إلينا‏:‏ أن أمسكوا، فأنقضّ نجم عظيم من السماء، وصرخ الكاهن رافعاً صوته‏:‏ أصابه إصابة، خامره عقابه، عاجله عذابه، أحرقه شهابه، ثم قال‏:‏ يا معشر قحطان، أخبركم بالحق والبيان، أُقسم بالكعبة والأركان، لمُنع السمع عُتَاةٌ الجان، لِمولود عظيم الشأن، يُبعث بالتنزيل والقرآن، وبالهدى وفاصل الفرقان، يَمنع من عبادة الأوثان‏.‏

فقلنا‏:‏ ما ترى لقومك‏؟‏ فقال‏:‏ أرى لقومي ما أرى لنفسي، أن يتبعوا خير نبي الإنس، برهانه مثل شعاع الشمس، يُبعث من مكة دارَ الحُمْس، يحكم بالتنزيل غير اللبس، فقلنا‏:‏ وممَّن هو‏؟‏ فقال‏:‏ والحياة والعيش، إنه لمن قريش، ما في حلمه طيش، ولا في خَلقه هيش، يكون في جيش، وأيّ جيش‏!‏‏!‏ فقلنا‏:‏ بَيِّن لنا مِن أي قريش هو‏؟‏ فقال‏:‏ والبيت ذي الدعائم، والديار والحمائم، إنه لمن نجل هاشم، من معشرٍ أكارم، يُبعث بالملاحم، وقتلِ كل ظالم، هذا البيان، أخبرني به رئيس الجان، ثم قال‏:‏ الله أكبر، جاء الحق وظهر، وانقطع عن الجن الخبر‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وأنَّا لا ندري أَشَرٌّ أُريد بمَن في الأرض‏}‏ بحراسة السماء، ‏{‏أم أراد بهم ربُّهم رشداً‏}‏؛ خيراً ورحمة، ونسبة الخير إلى الله تعالى دون الشر من الآداب الشريفة القرآنية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏ بعد أن ذكر ما في نفس الأمر بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ كُلٌ مِنْ عِندِ اللهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا كان اللهُ تعالى قد حفظ السماء من استراق السمع، فقلوب أوليائه أولى بأن يحفظها من خواطر السوء، فإذا تَوَلَّى عبداً حَفِظ قلبه من طوارق الشك، وخواطر التدبير، وسوء الأدب مع الربوبية، فيملؤه باليقين والطمأنينة، ويهبُّ عليه برد الرضا ونسيم التسليم، فيخرج عن مراد نفسه إلى مراد مولاه، في كل وجهة وعلى كل حال‏.‏ جعلنا الله مِن أهل هذا القبيل، بمنِّه وكرمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 17‏]‏

‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ‏(‏11‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا ‏(‏12‏)‏ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ‏(‏14‏)‏ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ‏(‏15‏)‏ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ‏(‏16‏)‏ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله، في مقالة الجن‏:‏ ‏{‏وأنَّا منا الصالحون‏}‏ أي‏:‏ الموصوفون بصلاح الحال، في شأن أنفسهم مع ربهم، وفي معاملتهم مع غيرهم، ‏{‏ومنا دونَ ذلك‏}‏ أي‏:‏ ومنا قوم دون ذلك، وهم المقتصدون في الصلاح، غير الكاملين فيه على الوجه المذكور، لا في الإيمان والتقوى، كما يتوهم، فإن هذا بيان لحالهم قبل استماع القرآن، كما يُعرب عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنا طرائِقَ قِدداً‏}‏ أي‏:‏ مذاهب متفرقة، وأدياناً مختلفة، وأما حالهم بعد استماعهم، فسيحكي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنا لَمَّا سمعنا الهدى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، أي‏:‏ كنا قبل هذا ذوي طرائق، أي‏:‏ مذاهب ‏{‏قِدَداً‏}‏ أي‏:‏ متفرقة مختلفة، جمع قِدّة، من‏:‏ قَدَّ إذا شقّ، كقِطعة من قطع‏.‏ قاله أبو السعود‏.‏

وقال الثعلبي‏:‏ ‏{‏وأنَّا منا الصالحون‏}‏ السبعة الذين استمعوا القرآن، ‏{‏ومنا دون ذلك‏}‏ دون الصالحين، ‏{‏كنا طرائق قددا‏}‏ أهواء مختلفة، وفِرقاً شتى، كأهواء الإنس، قيل‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك‏}‏، يعنون بعد استماع القرآن، أي‏:‏ منا بررة أتقياء، ومنا دون البررة، وهم مسلمون، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ مسلمون وغير مسلمين، قال المسيب‏:‏ كانوا مسلمين ويهوداً ونصارى، وقال السدي‏:‏ ‏{‏طرائق قددا‏}‏ قال‏:‏ في الجن مثلكم، قدرية، ومرجئة، ورافضة، وشيعة‏.‏ ه‏.‏ والحاصل‏:‏ أن «دون» صفة لمحذوف، وهي إمّا أن تكون بمعنى الأدون، فيكون الجميع مسلمين، لكنهم متفاوتون، أو بمعنى «غير» فيكون المعنى‏:‏ منا المسلمون ومنا غير المسلمين، كنا مذاهب متفرقة؛ نصارى ويهود ومجوس كالإنس، والظاهر‏:‏ أنه قبل استماع القرآن، بدليل ما يأتي في قوله‏:‏ ‏{‏وأنَّا لمَّا سمعنا الهُدى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

‏{‏وأنَّا ظننا‏}‏ أي‏:‏ تيقَّنَّا ‏{‏أن لن نُّعْجِزَ اللهَ‏}‏ أي‏:‏ أن الشأن لن نفوت الله ونسبقه، و‏{‏في الأرض‏}‏‏:‏ حال، أي‏:‏ لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ‏{‏ولن نُّعجِزَه هَرَباً‏}‏‏:‏ مصدر في موضع الحال، هاربين منها إلى السماء، أي‏:‏ فلا مهرب منه تعالى إن طلبنا، لا في أرضه ولا في سمائه‏.‏ ‏{‏وأنَّا لمَّا سمعنا الهُدى‏}‏؛ القرآن ‏{‏آمنا به‏}‏؛ بالقرآن، أو بالله تعالى، ‏{‏فمَن يؤمن بربه فلا يخافُ‏}‏ أي‏:‏ فهو لا يخاف ‏{‏بَخْساً‏}‏؛ نقصاً ‏{‏ولا رَهَقَا‏}‏ أي‏:‏ ولا ترهقه ذلة، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلآ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلآ ذِلَّةُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏، وفيه دليل على أنَّ العمل ليس من الإيمان، وأنَّ المؤمن لا يخلد في النار‏.‏

‏{‏وأنَّا منا المسلمون‏}‏؛ المؤمنون، ‏{‏ومنّا القاسِطون‏}‏؛ الجائرون عن طريق الحق، الذي هو الإيمان والطاعة، وهم الكفرة ‏{‏فمَن أسلم فأولئك تَحَروا رَشَداً‏}‏؛ طلبوا هدى‏.‏ والتحرّي‏:‏ طلب الأحرى، أي الأَولى، وجمع الإشارة باعتبار معنى «مَن»، ‏{‏وأمَّا القاسطون‏}‏؛ الحائدون عن الإسلام، ‏{‏فكانوا‏}‏ في علم الله ‏{‏لِجهنم حَطَباً‏}‏؛ وقوداً، وفيه دليل على أنَّ الجنِّي الكافر يُعذّب في النار وإن كان منها، والله أعلم بكيفية عذابه، وقد تقدّم أنّ المشهور أنهم يُثابون على طاعتهم بالجنة، قال ابن عطية‏:‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمَن أسلم‏.‏

‏.‏‏}‏ الخ، الوجه فيه‏:‏ أن تكون مخاطبة مِن الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤيده ما بعده من الآيات‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وأن لو استقاموا‏}‏ أي‏:‏ القاسطون ‏{‏على الطريقة‏}‏؛ طريقة الإسلام ‏{‏لأسْقيناهم‏}‏ المطر ‏{‏ماءً غَدَقاً‏}‏ أي‏:‏ كثيراً، والمعنى‏:‏ لوسّعنا عليهم الرزق‏.‏ وذكر الماء الغَدَق؛ لأنه سبب سعة الرزق، ‏{‏لِنفتنَهم فيه‏}‏؛ لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خُوِّلوا منه‏.‏ وفي الحديث القدسي يقول الله عزّ وجل‏:‏ «لَوْ أنَّ عِبادِي أطاعوني لأسْقَيتُهم المطرَ باللَّيْل، وأَطْلَعتُ عليهمُ الشمس بالنهار، ولم أًسمِعهم صوت الرعد»، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أّنَّ أّهْلَ القرى ءَامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السمآء والأرض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ وأن لو استقاموا على طريقة الكفر لأسقيناهم ماءً غدقاً، استدراجاً، ‏{‏لِنفتنَهم فيه‏}‏ فإذا لم يشكروا أهلكناهم، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلآ أّن يَكُونَ الناس أُمَّةَ وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 33‏]‏ الخ‏.‏ والأول أظهر، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏ومَن يُعرض عن ذكر ربه‏}‏؛ القرآن أو التوحيد أو العبادة، ‏{‏نسلكه‏}‏؛ ندخله أو يدخله الله ‏{‏عذاباً صعداً‏}‏؛ شاقًّا صعباً، يعلو المعذّب ويغلبه ويصعد عليه، ومنه قول عمر رضي الله عنه‏:‏ ما تصَعَّدني شيءٌ ما تصعّدتني خِطبة النكاح، أي‏:‏ ما شقَّ عليّ‏.‏ وهو مصدر وصف به، مبالغة، فعلى قول ابن عطية أنَّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمَن أسلم‏}‏ من مخاطبة الله لنبيه عليه السلام، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏وأن لو استقاموا‏}‏ من تتمة الخطاب، فلا تقدير، وإذا قلنا‏:‏ هو من قول الجن، فالتقدير‏:‏ وأوحي إليَّ أن لو استقاموا‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

الإشارة‏:‏ تقدّم أنَّ الجن فيهم الصالحون والعارفون، إلاّ أنَّ معرفة الآدمي أكمل؛ لاعتداله، وأما دوائر الأولياء من الأقطاب، والأوتاد، والنقباء، والنجباء، وغير ذلك، فلا تكون إلاّ من الإنس؛ لشرفهم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنا ظننا ألن نُعجز اللهَ في الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، أي‏:‏ تيقَّنا ألاّ مهرب منه، فرجعنا إليه اختباراً، فنحن ممن انقاد إليه بملاطفة الإحسان، لا بسلاسل الامتحان، ‏{‏وأنَّا لمّا سمعنا الهُدى آمنا‏}‏ أي‏:‏ أجبنا الداعي بلا تلَعْثم ولا تردد، وكذا في كل داعٍ بعد الداعي الأكبر، فيكون السابقون في كل زمان، وهؤلاء سابِقو الجن ومقربوهم، فمَن يؤمن بربه، ويتوجه إليه، فلا يخاف نقصاً ولا ذُلاًّ، بل كمالاً وعِزًّا، من أي فريق كان، وأنّا منا المسلمون المنقادون لأحكامه تعالى، التكليفية والتعريفية، وهي الأحكام القهرية، فمَن استسلم ورَضِي فقد تحرّى رشداً، ومَن قنط وسخط كان لجهنم حطباً، وأن لو استقاموا على الطريقة المرضية بالرضا والتسليم، وترك الاختيار؛ لأسقيناهم من خمرة الأزل، ومن ماء الحياة، ماءً غدقاً، تحيا به قلوبهم وأرواحهم، فيتنعّمون في شهود الذات الأقدس في الحياة وبعد الممات‏.‏ قال القشيري‏:‏ الاستقامة تقتضي إكمالَ النعمةِ وإكساب الراحة، والإعراضُ عن الله يُجب تَنَقُّصَ النعمة ودوام العقوبة‏.‏ ه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِنفتنهم‏}‏؛ لنختبرهم، مَن يعرف قدرها فيشكر، أو لا يعرف قدرها فيُنكر، فيُسلب من حيث لا يشعر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 28‏]‏

‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ‏(‏18‏)‏ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ‏(‏19‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ‏(‏20‏)‏ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ‏(‏21‏)‏ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏22‏)‏ إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ‏(‏23‏)‏ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ‏(‏24‏)‏ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ‏(‏25‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ‏(‏27‏)‏ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وأنَّ المساجدَ لله‏}‏ أي‏:‏ ومن جملة ما أُوحي إليَّ‏:‏ أنَّ المساجد، أي‏:‏ البيوت المبنية للصلاة فيها هي لله، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ ولأنّ المساجد لله ‏{‏فلا تدعوا‏}‏، على أنَّ اللام متعلّقة ب «تدعوا»، أي‏:‏ فلا تدعوا ‏{‏مع الله أحداً‏}‏ في المساجد؛ لأنها خالصة لله ولعبادته، فلا تعبدوا فيها غيره تعالى، ولا تفعلوا فيها إلا ما هو عبادة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ المسجد الحرام، والجمع؛ لأن كل ناحية منه مسجد له قبلة مخصوصة، أو لأنه قبلة المساجد، وقيل‏:‏ الأرض كلها؛ لأن جُعلت للنبي صلى الله عليه وسلم مسجداً وطهوراً، وقيل‏:‏ أعضاء السجود السبعة التي يسجد عليها العبد، وهي‏:‏ القدمان، والركبتان، واليدان، والوجه، يقول‏:‏ هذه الأعضاء أنعم الله بها عليك، فلا تسجد عليها لغيره، فتجحد نِعَمه، ولا تذلها لغير خالقها‏.‏ فإن جعلت المساجد المواضع، فواحدها مسجِد بكسر الجيم، وإن جعلت الأعضاء، فبفتح الجيم‏.‏

‏{‏وأنه‏}‏ أي‏:‏ ومما أوحي إليّ أن الشأن ‏{‏لمَّا قام عبدُ الله‏}‏، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏يدعوه‏}‏؛ يعبده في الصلاة، ويقرأ القرآن في صلاة الفجر، كما تقدم في الأحقاف، ولم يقل‏:‏ نبي الله، أو رسول الله؛ لأنَّ العبودية من أشرف الخصال، أو‏:‏ لأنه لمّا كان واقعاً في كلامه صلى الله عليه وسلم عن نفسِه جيء به على ما يقتضيه التواضع، أو‏:‏ لأنَّ عبادة عبد الله ليست بأمر مستبعد حتّى يجتمعوا عليه، كما قال‏:‏ ‏{‏كادوا‏}‏ أي‏:‏ كاد الجن ‏{‏يكونون عليه لِبداً‏}‏؛ جماعات متراكبين من ازدحامهم عليه، تعجُّباً مما رأوا من عبادته، واقتداء أصحابه به، أو إعجاباً مما تلي من القرآن؛ لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا ما لم يسمعوا بنظيره‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ لمَّا قام عليه السلام يعبد اللهَ وحدَه مخالفاً للمشركين، كادوا يزدحمون عليه متراكبين‏.‏ واللبدّ‏:‏ جمع لبدة، وهي ما تلبّد بعضه على بعض‏.‏ وعن قتادة‏:‏ تلبّدت الإنس والجن على أن يُطفئوا نوره، فأبى اللهُ إلاَّ أن يُظهره على مَن ناوأه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأنه‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الخ، يحتمل أن يكون خطاباً من الله تعالى، وأن يكون إخباراً عن الجن‏.‏

‏{‏قال إِنما أدعو‏}‏ أي أعبد ‏{‏ربي ولا أُشرك به‏}‏ في عبادتي ‏{‏أحداً‏}‏، فليس ذلك ببدع ولا بمستنكر يوجب التعجُّب أو الإطباق على عداوتي، وقرأ عاصم وحمزه «قل» بالأمر، ثم تبرّأ من ملِك الضر والنفع لأحد ولا لنفسه، وأنَّ ذلك لله وحده، فلا يُعبد إلاَّ إياه، فقال‏:‏ ‏{‏قل إِني لا أملك لكم ضرًّا ولا رَشَداً‏}‏ والأصل‏:‏ لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعاً، ولا غيًّا ولا رشداً فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر، أو أراد بالضر‏:‏ الغي، أي‏:‏ لا أستطيع أن أضركم ولا أنفعكم؛ إذ ليس من وظيفتي إلاَّ الإنذار‏.‏

‏{‏قل إِني لن يُجيرني من الله أحدٌ‏}‏ أي‏:‏ لن يدفع عني عذابه إن عصيته، كقول صالح عليه السلام‏:‏ ‏{‏فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 63‏]‏، ‏{‏ولن أجد من دونه مُلتحداً‏}‏؛ مُلتجئاً ‏{‏إلا بلاغاً من الله‏}‏، استثناء من ‏{‏لا أملك‏}‏ أي‏:‏ لا أملك لكم شيئاً إلا تبليغ الرسالة، و‏{‏قل إني لن يجيرني‏}‏‏:‏ اعتراض لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه، وبيان عجزه، وقيل‏:‏ ‏{‏بلاغاً‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏ملتحداً‏}‏، أي‏:‏ لن أجد من دونه ملجاً إلاّ أن أُبلّغ عنه ما أرسلني به، أي‏:‏ لا ينجيني إلاَّ أن أُبلغ عن الله ما أُرسلت به فإنه ينجيني، وقوله‏:‏ ‏{‏ورسالاته‏}‏‏:‏ عطف على «بلاغاً»، كأنه قيل‏:‏ لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات، أي‏:‏ إلاّ أن أُبلغ عن الله، فأقول قال الله كذا، ناسباً قوله إليه، وأن أُبلّغ رسالاته التي أرسلني بها، بلا زيادة ولا نقصان و‏(‏مِن‏)‏ ليست صلة للتبليغ، إنما هي بمنزلة ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏بَرَآءَةٌ مِّنَ الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 1‏]‏ أي‏:‏ بلاغاً كائناً من الله وتبليغ رسالاته قاله النسفي‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ وأنَّ مساجد الحضرة لله، والحضرة‏:‏ شهود الذات الأقدس وحدها، فلا تدعوا مع الله أحداً، أي‏:‏ لا تَروا معه غيره، فتخرجوا من حضرته، وأنه لمّا قام عبدُ الله، وهو الداعي إلى الله في كل زمان يدعوه، ويدعو إليه، كادوا يكونون عليه لِبداً، إمّا متعجبين منه، أو مقتبسين من أنواره، قال‏:‏ إنما أدعو ربي ولا أُشرك به شيئاً قل يا أيها الداعي لتلك اللبد، لا أملك لكم من الله غيًّا ولا رشداً، إلاَّ بلاغاً، أي إنذاراً وتبليغ ما كُلفت به، فإنما أنا أدعو، والله يهدي على يدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم، قل يا أيها الداعي‏:‏ إني لن يُجيرني من الله أحد إن قَصّرت في الدعوة أو أسأت الأدب، ولن أجد من دونه ملتجأ‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

ثم ذكر وبال مَن ردّ الرسالة، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً‏}‏‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومَ يعص اللهَ ورسولَه‏}‏ في رد رسالته، وعدم قبول ما جاء به الرسول، ‏{‏فإِنَّ له نارَ جهنمَ‏}‏، وقُرىء بفتح الهمزة، أي‏:‏ فحقه، أو فجزاؤه أنّ له نار جهنم، ‏{‏خالدين فيها‏}‏ أي‏:‏ في النار ‏{‏أبداً‏}‏، وحّد في قوله «له» وجمع في «خالدين» للفظ ‏(‏من‏)‏ ومعناه‏.‏ ‏{‏حتى إِذا رَأَوا ما يوعدون‏}‏، متعلق بمحذوف، يدل عليه الحال من استضعاف الكفار لأمره صلى الله عليه وسلم، واستقلالهم لعدده، كأنه قيل‏:‏ لا يزالون على ما هم عليه، ‏{‏حتى إّذا رَأَوا ما يُوعدون‏}‏ من فنون العذاب في الآخرة ‏{‏فسيعلمون‏}‏ عند حلول العذاب بهم ‏{‏مَن أَضْعَفْ ناصراً وأقلُّ عدداً‏}‏ أهم أم المؤمنون‏؟‏ بل الكفار لا ناصر لهم يؤمئذ، والمؤمنون ينصرهم الله ويُعزّهم‏.‏ وحُمل ‏{‏ما يوعدون‏}‏ على ما رأوه يوم بدر، ويُبعده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إِن أدرِي أقريب ما تُوعَدُون‏}‏ من العذاب، ‏{‏أم يجعل له ربي أمداً‏}‏؛ غاية بعيدة يعني‏:‏ أنكم معذَّبون قطعاً، ولكن لا أدري أهو حالّ أم مؤجّل‏؟‏

‏{‏عالِمُ الغيبِ‏}‏ أي‏:‏ هو عالم الغيب، ‏{‏فلا يُظْهِر‏}‏؛ فلا يُطلع ‏{‏على غيبه أحداً إِلاّ مَن ارتضى من رسولٍ‏}‏ أي‏:‏ إلاَّ رسولاً قد ارتضاه لِعلْمِ بعض الغيب؛ ليكون إخباره عن الغيب معجزةً له، والولي إذا أخبر بشيء فظهر فهو غير جازم به، وإنما أخبر به بناءً على رؤيا، أو بالفراسة، أو بتجلِّ قلبي، على أنّ كل كرامة لوليّ فهي معجزة لنبيه‏.‏ قال بعضهم‏:‏ وفي هذه الآية دلالة على تكذيب المنجّمة، وليس كذلك، فإنَّ فيهم مَن يَصدق خبره، وكذلك المتطببة، فإنهم يعرفون طبائع النبات، وذا لا يُعرف بالتأمُّل، فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره، وبقي علمه في الخلق‏.‏ قاله النسفي‏.‏ فتحصّل‏:‏ أنّ إطلاع النبي على الغيب قطعي، وغيره ظني‏.‏

وقال أبو السعود‏:‏ وليس في الآية ما يدلّ على نفي كرامات الأولياء المتعلقة بالكشف، فإنّ اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكشف بالرسل لا يستلزم عدم حصول مرتبةٍ ما من تلك المراتب لغيرهم أصلاًن ولا يدعي أحدٌ لأحدٍ من الأولياء ما في رتبة الرسل عليهم السلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح‏.‏ ه‏.‏ وفيه تعريض بالزمخشري، فإنه استدل بالآية على نفي كرامات الأولياء، قال‏:‏ لأنَّ الله خصّ الاطلاع على الغيب بالرسل دون غيرهم‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ ولا غرابة في إنكار معظم المعتزلة لكرامات الأولياء؛ إذ هم لم يُشاهدوا في جماعتهم الضالة المضلة ولياً لله تعالى قط، فكيف يعرفون الكرامة‏؟‏‏!‏‏!‏‏.‏ ه‏.‏

‏{‏فإنه يَسْلُكُ‏}‏؛ يدخل ‏{‏مِن بين يديه‏}‏ أي‏:‏ الرسول، ‏{‏ومِن خلفه‏}‏ عند إظهاره على غيبه، ‏{‏رَصَداً‏}‏؛ حفظة وحَرَساً من الملائكة يحفظونه من تعرُّض الشيطان، لما أظهره عليه من الغيوب، ويعصمونه من وساوسهم، وتخاليطهم حتى يُبلغ الوحي، ‏{‏ليعلم‏}‏ اللهُ عِلْمَ شهادة ‏{‏أن قد أَبلغوا‏}‏ أي‏:‏ الرسل ‏{‏رسالات ربهم‏}‏ كاملة، بلا زيادة ولا نقصان، إلى المرسَل إليهم، أي‏:‏ ليعلم ذلك على ظهور، وقد كان يعلم ذلك قبل وجوده‏.‏

ووحّد الضمير في «يديه وخلفه»؛ مراعاة للفظ ‏(‏مَن‏)‏، وجمع في ‏(‏أَبلَغوا‏)‏ لمعناه، و«أن» مخففة من الثقيلة، واسمها‏:‏ ضمير الشأن، والجملة خبرها، ‏{‏وأحاط‏}‏ الله تعالى ‏{‏بما لديهم‏}‏ أي‏:‏ بما عند الرسل من العلم ‏{‏وأحْصَى كُلَّ شيءٍ عَدَداً‏}‏، من القطر، والرمل، وورق الأشجار، وزبد البحر، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه‏؟‏‏!‏ و«عدداً»‏:‏ حال، أي‏:‏ علم كلّ شيءٍ معدوداً محصوراً، أو مصدر، أي‏:‏ أحصاه إحصاءً‏.‏

الإشارة‏:‏ ومَن يعص اللهَ ورسولَه، أو خليفته الداعي إلى الله بطريق التربية النبوية، فإنَّ له نار القطيعة، خالدين فيها أبداً، وقد كانوا في حال حياتهم يستظهرون عليه بالدعاوى الفارغة، وكثرة الأتباع، حتى إذا رأوا ما يُوعدون من أمارات الموت، فسيعلمون مَن أضعف ناصراً وأقل عدداً، قل‏:‏ إن أدري أقريب ما تُوعدون من الموت، أم يجعل له ربي أمداً، ولا بد أن ينتهي، ويقع الرحيل إلى دار تنكشف فيها السرائر، ويُفضح فيها الموعود‏.‏ عالم الغيب، أي‏:‏ يعلم ما غاب عن الحس من أسرار ذاته وأنوار ملكوته، أي‏:‏ يعلم أسرار المعاني القائمة بالأواني، فلا يظهر على غيبه أحداً، أي‏:‏ لا يكشف عن اسرار ذاته في دار الدنيا إلاّ لمَن ارتضى من رسول، أو نائبه، وهو العارف الحقيقي، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رَصَداً، أي‏:‏ يحفظه من جميع القواطع، من كل جهاته، حتى يوصله إلى حضرة أسرار ذاته، ليظهر أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ودعوا الناس إلى معرفة ذاته، وقد أحاط تعالى بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً‏.‏ وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة المزمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ‏(‏1‏)‏ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏2‏)‏ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ‏(‏3‏)‏ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ‏(‏7‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ‏(‏8‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ‏(‏9‏)‏ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها المزَّمِّلُ‏}‏ أي‏:‏ المتزمّل، وهو الذي تزمّل في ثيابه، أي‏:‏ التفّ بها، بإدغام التاء في الزاي‏.‏ قال السهيلي‏:‏ المزمّل‏:‏ اسم مشتق من الحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم حين الخطاب، وكذلك المُدَّثِر‏.‏ وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان‏:‏ إحداهما الملاطفة؛ فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفةَ المخاطَب، وتَرْكَ عتابه، سَمَّوه باسم مشتق من حالته، كقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ حين غاضب فاطمة‏:‏ «قم أبا تراب» إشعاراً له أنه غير عاتب عليه، وملاطفةَ له‏.‏ والفائدة الثانية‏:‏ التنبيه لكل متزمّل، راقد ليله، لينتبه إلى قيام الليل وذكرِ الله فيه؛ لأنّ الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه المخاطَب، وكل مَن عمل بذلك العمل، واتصف بتلك الصفة‏.‏ ه‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم ذات ليلة متزمِّلاً في ثيابه نائماً، فنزل جبريل يأمره بقيام الليل بقوله‏:‏ ‏{‏قَمْ الليلَ‏}‏ أي‏:‏ قُم للصلاة بالليل، ف «الليل» نصب على الظرفية، و‏{‏إلاَّ قليلاً‏}‏‏:‏ استثناء من الليل، و‏{‏نِصْفَه‏}‏‏:‏ بدل من «الليل» الباقي بعد الثنيا، بدل الكل، أي‏:‏ قُم نصفه، أو‏:‏ مِن «قليلاً»، والتعبير عن النصف المخرج بالقليل لإظهار كمال الاعتداد بشأن الجزاء المقارن للقيام، والإيذان بفضله، وكون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثره في كثرة الثواب‏.‏ ‏{‏أو انقُصْ منه‏}‏؛ من النصف نقصاً ‏{‏قليلاً‏}‏ إلى الثلث، ‏{‏أو زِدْ عليه‏}‏، على النصف إلى الثلثين، فالمعنى‏:‏ تخييره صلى الله عليه وسلم بين أن يقوم نصفَه أو أقلّ منه أو أكثر‏.‏ وقيل‏:‏ «نصفه» بدل من «الليل»، و«إلاّ قليلاً» مستثنى من النصف، فالضمير في «منه» و«عليه» للنصف، والمعنى‏:‏ التخيير بين أمرين، بين أن يقوم أقل من نصف على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين، وهما النقصان من النصف، والزيادة عليه، والذي يليق بجزالة التنزيل هو الأول‏.‏ أنظر أبا السعود‏.‏

والجمهور‏:‏ أن الأمر هنا للندب، وقيل‏:‏ كان فرضاً وقت نزول الآية، وقيل‏:‏ كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وبقي كذلك حتى تُوفي‏.‏

‏{‏وَرَتِّلِ القرآن‏}‏ في أثناء قيامك بالليل، أي‏:‏ اقرأه على تُؤدة وتبيين حروفٍ ترتيلاً بليغاً بحيث يتمكن السامع مِن عَدٍّها، من قولهم‏:‏ ثغر رَتَل‏:‏ إذا كان مفلّجاّ‏.‏ وترتيلُ القرأن واجب، فمَن لم يرتِّله فهو آثم إذا أخلَّ بشيء من أداء التجويد، كترك الإشباع أو غيره‏.‏ والمقصود من الترتيل‏:‏ تدبُّر المعاني، وإجالة الفكر في أسرار القرآن‏.‏ قال في الإحياء‏:‏ واعلم أنّ الترتيل أشد تأثيراً في القلب من الهذرمة والاستعجال، والمقصود من القرآن‏:‏ التفكُّر، والترتيلُ مُعين عليه‏.‏

وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله‏.‏

‏{‏إِنَّا سنُلْقِي‏}‏ أي‏:‏ سنُنزل ‏{‏عليك قولاً ثقيلاً‏}‏ وهو القرآن العظيم، المنطوي على تكاليف شاقة ثقيلة على المكلّفين، أو‏:‏ ثقيلاً على المنافقين، أو‏:‏ ثقيلاً لرزانة لفظه، ومتانة معناه، أو‏:‏ ثقيلاً على المتأمِّل؛ لافتقاره إلى مزيد تأمُّل وتفرُّغ للسر، وتجريدٍ للنظر، أو ثقيلاً في الميزان، أو ثقيلاً تلقيه من جبريل، فقد كان عليه السلام ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البردِ، فَيَفْصِم عنه، وإنّ جبينه لَيتَفَصَّدُ عَرَقاً‏.‏

‏{‏إِن ناشئةَ الليلِ‏}‏ أي‏:‏ قيام الليل، مصدر من «نشأ» إذا قام ونهض، على وزن فاعلة، كالعافية العاقبة، أو‏:‏ إنَّ النفس التي تنشأ مِن مضجعها إلى العبادة، أي‏:‏ تنهض، أو‏:‏ إن العبادة التي تنشأ بالليل، أي‏:‏ تحدث، أو‏:‏ ساعات الليل؛ لأنها تنشأ ساعة فساعة، وكان زين العابدين يُصلّي بين العشاءين ويقول‏:‏ هذه ناشئة الليل‏.‏ قلت‏:‏ وهذا وقت كان السلف يحرصون على عمارته بأنواع العبادات؛ لأنه يمحوا ظلمة النهار التي تُكتسب من شغل الدنيا‏.‏ ‏{‏هي أشَدُّ وَطْأً‏}‏ أي‏:‏ موافقة للقلب‏.‏ وقرأ البصري والشامي ‏(‏وِطاء‏)‏ أي‏:‏ وِفاقاً، أي‏:‏ يوافق فيها القلبُ اللسانَ، وعن الحسن‏:‏ أشدّ موافقة بين السر والعلانية؛ لانقطاع رؤية الخلائق وغيرها، أو‏:‏ أشدّ ثباتَ قَدَم وكلفة، أي‏:‏ أثقل على المصلي من صلاة النهار؛ لطرد النوم في وقته، من قوله عليه السلام‏:‏ «اللهم اشْدُدْ وطْأَتَك على مُضَرَ» ‏{‏وأقْوَمُ قِيلاً‏}‏ أي‏:‏ أصْوب مقالاً، وبه قرأ أنس، فقيل له‏:‏ إنما هو أقوم فقال‏:‏ أقوم وأصوب واحد، وإنما كانت قراءة الليل أصوب قولاً؛ لقلة خطأ اللسان فيها؛ لتفرُّغه من ثقل الطعام، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أثبت قراءةً؛ لحضور القلب؛ لهدوّ الأصوات، وانقطاع الحركات‏.‏

‏{‏إِنّ لك في النهار سَبْحاً طويلاً‏}‏ أي‏:‏ تصرُّفاً وتقلُّباً في مهمّاتك واشتغالاً بتعليم أمتك، فتفرّغ بالليل لعبادة ربك‏.‏ ‏{‏واذكر أسْمَ ربك‏}‏ أي‏:‏ دُم على ذكره في الليل والنهار، على أي وجهٍ، من تسبيح وتهليل وتكبير، وقراءة قرآن، وتدريس علم‏.‏ ‏{‏وتبتلْ إِليه‏}‏ أي‏:‏ انقطع إلى عبادته عن كل شيءٍ، بمجامع الهمة، واستغراق العزيمة‏.‏ والتبتُّل‏:‏ الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره، وقيل‏:‏ رفض الدنيا وما فيها، والتماس ما عند الله‏.‏ وأكّده بقوله‏:‏ ‏{‏تبتيلا‏}‏ زيادةً في التحريض، مع ما فيه من رعاية الفواصل‏.‏

‏{‏ربُّ المشرقِ والمعربِ‏}‏ أي‏:‏ هو رب، أو‏:‏ مبتدأ خبره‏:‏ ‏{‏لا إِله إلاّ هو‏}‏، ومَن قرأه بالجر فبدل من «ربك»، وقيل‏:‏ على إضمار القسم، وجوابه‏:‏ لا إله إلاّ هو، أي‏:‏ وربِّ المشرق لا إله إلا هو، كقولك‏:‏ والله لا أحد في الدار‏.‏ ‏{‏فاتَّخِذْه وَكِيلا‏}‏ أي‏:‏ وليًّا وكفيلاً بما وعدك من النصر والعز‏.‏ والفاء لترتيب ما قبله، أي‏:‏ إذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب، وأن لا إله إلا هو، فاتخذه كفيلاً لأمورك‏.‏ ‏{‏واصبرْ على ما يقولون‏}‏ في جانبي من الصاحِبة والولد، وفيك مِن الساحر والشاعر، ‏{‏واهجرهم هَجْراً جميلاً‏}‏ بأن تُجانبهم وتداريَهم ولا تجافهم، بل كِلْ أمرهم إلى ربهم، كما يُعرب عنه ما بعده، أون‏:‏ جانبهم بقلبك وخالطِهم بجسمك مع حسن المخالطة وترك المكافأة، وقيل‏:‏ هو منسوخ بآية القتال‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه، قال‏:‏ «أفلا أكون عبداً شكوراً»، وقيام الليل لا يخص بالصلاة، بل لكل مقام مقال، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار، وهي صلاة القلوب الدائمة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورتِّل القرآنَ ترتيلا‏}‏ خطاب لأهل التهجُّد، وهم ألوان مختلفة، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها، وهم أهل الخوف المزعِج، أو الشوق المقلِق، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء‏.‏ وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة، وابن عباس مائة مرة، وكان سليمان بن عمير يختمه ثلاث ختمات في كل ليلة، ويجامع أهله بعد كل ختمة‏.‏ وكان رجل بالمشرق، يُقال له «أبو عيسى التلمساني»، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة، فذكر ذلك بمدينة سبتة، بحضور الفقيه العزفي، فقال الفقيه‏:‏ لون كان يقول‏:‏ القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك، فخرج إلى المشرق، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج، كما في الصحيح، وذكر الفرغاني في شرح التائية‏:‏ أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني، فأنكر بعضٌ ذلك عليه، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم، وهو يسمع حرفاً حرفاً، فسبحان القادر على كل شيء‏؟‏‏!‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا‏}‏، قال القشيري‏:‏ ‏(‏ثقيلاً‏)‏ أي‏:‏ له خطْر ويقال‏:‏ لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية، ورُبّي في حجر التقريب‏.‏ ه‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق، فكان يحمل الحق بالحق‏.‏ ه‏.‏ المراد منه‏.‏ ‏(‏إنَّ ناشئة الليل‏)‏ أي‏:‏ نشأة الفكرة في الليل هي أشد وطأً، أي‏:‏ موافقة، وغرقاً في بحر الذات، وتيار الصفات؛ لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس‏.‏

وكان الشيخ «أبو يزيد» يخرج كل ليلة إلى الصحراء، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه، شاخصاً ببصره إلى السماء، فقال لمَن رآه كذلك‏:‏ دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي، وأطلعني على عجائب ملكوته‏.‏‏.‏‏.‏ الخ كلامه، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية ووقوفه في ذلك لغلبة الحال، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود، ويَدُورون معه، وهم على فُرشهم، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن لك في النهار سَبْحاً طويلا‏}‏ السَبح هو العوم، أي‏:‏ إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك، وهو عين السَبْح المتقدم، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن، فبالتبتُّل يحصل الوصول، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان، ثم يسبح في بحر العيان‏.‏ رب المشرق والمغرب، أي‏:‏ مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان، بسطوع شمس العيان‏.‏ لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً، ويمنحك فخراً جليلاً، واصبر على ما يقولون في جانبك، فإنَّ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور‏.‏ ‏{‏واهجرهم هجراً جميلاً‏}‏، قال القشيري‏:‏ أي‏:‏ عاشِرهم بظاهرك، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك، ويُقال‏:‏ الهجرُ الجميل‏:‏ ما يكون بحق ربك، لا بحظِّ نفسك‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 19‏]‏

‏{‏وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ‏(‏11‏)‏ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا ‏(‏12‏)‏ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏13‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ‏(‏14‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ‏(‏16‏)‏ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ‏(‏17‏)‏ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ‏(‏18‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَذَرْنِي والمكذِّبينَ‏}‏ أي‏:‏ دعني وإيّاهم وكِلْ أمرَهم إليّ، فإني أكفيكهم، والمراد رؤساء قريش، و«المكذِّبين»‏:‏ مفعول معه، أو‏:‏ عطف على الياء‏.‏ ‏{‏أُولِي النَّعْمَةِ‏}‏ أي‏:‏ أرباب التنعُّم وهم صناديد الكفرة، فالنَّعمة بالفتح‏:‏ التنعُّم، وبالكسر‏:‏ ما يتنعّم به، وبالضم‏:‏ المسرة‏.‏ ‏{‏ومَهِّلْهُمْ قليلاً‏}‏ أي‏:‏ إمهالاً قليلاً، أو زمناً قليلاً إلى يوم بدر، أو يوم القيامة‏.‏

‏{‏إنَّ لَدَيْنا‏}‏ للكافرين يوم القيامة، ‏{‏أنكالاً‏}‏؛ قيوداً ثِقالاً، جمع نِكْل، ‏{‏وجَحيماً‏}‏؛ ناراً محرقة ‏{‏وطعاماً ذا غُصَّةٍ‏}‏ الذي ينشب في الحلوق فلا يُساغ، يعني‏:‏ الضريع والزقوم‏.‏ ‏{‏وعذاباً أليماً‏}‏؛ مؤلماً يخلص وجعه إلى القلب‏.‏ رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الآية فصعق، وعن الحسن‏:‏ أنه أمْسى صائماً، فأُتي بطعام، فعرضت له هذه الآية، فقال‏:‏ ارفعه، ووُضع عنده الليلة الثانية فعرضت له، فقال‏:‏ ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة، فأخبر ثابت البناني وغيره، فجاؤوا، فلم يزالوا به، حتّى شرب شربةً من سَّوِيق‏.‏

وهذا العذاب واقع ‏{‏يَوْمَ ترجُف الأرضُ والجبالُ‏}‏ أي‏:‏ تتحرّك حركةً شديدة مع صلابتها وارتفاعها، فالظرف منصوب بما في «لدينا» من معنى الفعل، أي‏:‏ استقر للكفار كذا وكذا يوم ترجف‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ ‏{‏وكانت الجبالُ كَثِيباً‏}‏؛ رملاً مجتمعاً‏.‏ من‏:‏ كثب الشيء إذ جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول‏.‏ ‏{‏مَّهِيلاً‏}‏؛ سائلاً بعد اجتماعه‏.‏

‏{‏إنَّا أرسلنا إِليكم‏}‏ يا أهل مكة ‏{‏رسولاً‏}‏ وهو محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏شاهداً عليكم‏}‏؛ يشهد يوم القيامة بما صدر منكم من الكفر والعصيان، ‏{‏كما أرسلنا إِلى فرعون رسولاً‏}‏ وهو موسى عليه السلام، ‏{‏فعصى فرعونُ الرسولَ‏}‏ الذي أرسلنا إليه، أي‏:‏ عصى ذلك الرسول؛ لأنَّ النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى‏.‏ ومحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ أرسلنا إليكم رسولاً فعصيتموه، كما يُعرب عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شاهداً‏}‏ إرسالاً كائناً كإرسال موسى لفرعون، فعصاه، ‏{‏فأخذناه أخذاً وَبيلاً‏}‏؛ شديداً غليظاً‏.‏ وإنما خص موسى وفرعون؛ لأنَّ خبرهما كان منتشراً بين أهل مكة؛ لأنهم كانوا جيران اليهود‏.‏

‏{‏فكيف تتقون إِن كفرتم‏}‏ أي‏:‏ بقيتم على كفركم ‏{‏يوماً‏}‏ أي‏:‏ عذاب يوم ‏{‏يجعلُ الوِلْدان‏}‏ من شدة هوله، وفظاعة ما فيه من الدواهي ‏{‏شِيباً‏}‏ جمع أشيب، أي‏:‏ شيوخاً، إمّا حقيقة، أو تمثيلاً، وذلك أنَّ الهموم والأحزان إذا تفاقمت على المرء ضعفت قواه وأسرع فيه الشيب، فإذا قلنا‏:‏ هو من باب التمثيل، يكون كقولهم في اليوم الشديد‏:‏ يوم تشيب فيه نواصي الأطفال، وإذا قلنا حقيقة فلعله ممن بلغ الحلم، وصَحِبه تفريط، وهذا الوقت الذي يُشيب الولدان هو حين يُقال لآدم عليه السلام‏:‏ «أخْرِج بعثَ النار من ذريتك‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث، ف «يوماً» مفعول بكفرتم، أي‏:‏ جحدتم، أو‏:‏ ب «تتقون»، أي‏:‏ كيف تتقون عذاب يوم كذا إن كفرتم بالله، أو‏:‏ ظرف، أي‏:‏ فكيف لكم التقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا، و«يجعل» صفة ليوم، والعائد محذوف، أي‏:‏ فيه‏.‏

‏{‏السماءُ مُنفَطِر به‏}‏ أي‏:‏ السماء على عِظمها وإحكامها منفطر به، أي‏:‏ متشققة مِن هوله، فما ظنك بغيرها من الخلائق‏؟‏ والتذكير لتأويل السماء بالسقف، أو‏:‏ لإجرائه على موصوف مذكّر، أي‏:‏ شيء منفطر، وعبّر عنها بذلك؛ للتنبيه على أنها تبدّلت، حقيقتها، وزال عنها اسمها ورَسمها، ولم يبقَ منها إلا ما يُعبر عنه بشيء‏.‏ والباء في «به» للآله، يعني‏:‏ أنها تتفطّر لشِدّة ذلك اليوم وهوله، كما ينفطر الشيء بما يفطر به‏.‏ ‏{‏كان وعدُه‏}‏ بالبعث ‏{‏مفعولا‏}‏ لا شك فيه، فالضمير لله عزّ وجل، والمصدر مضاف إلى فاعله أول إلى مفعوله، وهو اليوم، والفاعل هو الله عزّ وجل‏.‏ ‏{‏إِنَّ هذه تذكرةٌ‏}‏ أي‏:‏ إنَّ هذه الآيات المنطوية على القوارع المذكورة موعظة، ‏{‏فمَن شاء اتَّخَذِ إِلى ربه سبيلا‏}‏ أي‏:‏ فَمن شاء اتعظ بها، واتخذ طريقاً إلى الله تعالى بالإيمان والطاعة، فإنه المنهاج الموصَّل إلى مرضاته‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ فذرني والمكذّبين، القائلين بكثرة الوجود وتعدده‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ مع أنه متحد، كما قال الشاعر‏:‏

هَذّا الوُجودُ وإن تَعَدَّدَ ظَاهِراً *** وحَيَاتكُم ما فِيه إلا أَنْتُمُ

أُولي النِّعمة‏:‏ الترفُّه، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم، وأشركوا مع الله غيره، و«مَهِّلْهُم قليلاً» أي‏:‏ زمن عمرهم؛ لأنه قليل وإن طالت مدته؛ إذ لا فائدة فيه‏.‏ إنَّ لدينا أنكالاً، أي‏:‏ قيوداً من العلائق والعوائق تعلقهم وتعوقهم عن الوصول إلى أسرار التوحيد، وطعاماً ذا غُصةٍ يغص الروح عن شراب الحمرة؛ لضيق مسلكه بوجود العوائق، وعذاباً أليماً‏:‏ البُعد والطرد عن باب حضرتنا وجناب كبريائنا‏.‏ يوم ترجف أرض البشرية بهزها بذكر الله، وجبال العقل بتجلِّي أنوار الذات، فيصير هباءً منثوراً‏.‏ ‏{‏إنَّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم‏}‏، وهو الداعي إلى هذه الأسرار التفريدية، كما أرسلنا إلى فراعين كل زمان رسولاً يدعوهم إلى الله، فعصى فرعونُ كل زمان رسولَه، وهو الخليفة عن الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم فأخذناه أخذاً وبيلاً، فاختطفته المنية من سعة القصور إلى ضيق القبور، فكيف تتقون الله حق تقاته، إن كفرتم يوم وقوفكم بين يدي الواحد القهار‏؟‏ يوم تشيب فيه الولدان خجلاً من الملك الديّان‏.‏ السماءُ منفطر مِن هوله، حين يُحال بين المرء وعملِه، إذ ليس محلّ العمل، وإنما هو محل إظهار كرامات العمل، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون، إنَّ هذه تذكرة بالغة، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يوصله إليه اليوم، قبل أن يُحال بينه وبينه بسور الموت‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ ربك يعلمُ أنك تقومُ أدْنَى‏}‏ أي‏:‏ أقل ‏{‏من ثلثي الليل‏}‏، استعير الأدنى وهو الأقرب، للأقل؛ لأنَّ المسافة بين الثلثين إذا دنت قلَّ ما بينهما من الأحيان، وإذا بعدت كثر ذلك، ‏{‏ونِصْفَهُ وثُلُثَهُ‏}‏، مَن نَصَبَهما عَطَفَهما على «أدنى» ومَن جرهما عطفهما على «ثُلثي»، أي‏:‏ عَلِمَ أنك تقوم تارة أدنى من ثلثي الليل، وتارة نصفَه، وتارة ثلثه، أو أدنى من ثلثه بحسب ما تيسر، ‏{‏وطائفةٌ من الذين معك‏}‏ أي‏:‏ ويقوم ذلك المقدار طائفة مِن أصحابك‏.‏ قيل‏:‏ وفيه دليل على أنه لم يكن فرضاً على الجميع، وإلاَّ لقال‏:‏ والذين معك، إلاّ أن يُقال‏:‏ كان فيهم مَن يقوم في بيته، ومنهم مَن يقوم معه، فيمكن إذ ذاك الفرضية على الجميع، وعلى كل حال فالمراد بالطائفة‏:‏ الجماعة الكثيرة من الصحابة؛ لأنها في معرض الثناء، على أنه لا يتصور الحرج على الفرد النادر، ف «طائفة» عطف على ضمير «يقوم»، وجاز بلا توكيد لوجود الفصل‏.‏

‏{‏والله يُقَدِّرُ الليلَ والنهارَ‏}‏ أي‏:‏ لايَقدر على تقدير الليل والنهار ولا يعلم مقادير ساعاتها إلاَّ الله وحده، وتقديم اسمه عزّ وجل يُؤذن بالاختصاص‏.‏ ثم إنهم قاموا حتى انتفحت أقدامهم، فنزل التخفيف بقوله‏:‏ ‏{‏عَلِمَ أن لن تُحْصُوهُ‏}‏؛ لن تطيقوا قيامه على المقادير المأمور بها أول السورة إلاَّ بشدة وحرج‏.‏ ‏{‏فتابَ عليكم‏}‏؛ فخفف عنكم، وأسقط عنكم فرض قيام الليل، ‏{‏فأقرؤوا ما تيسَّرَ من القرآن‏}‏ أي‏:‏ فصَلُّوا ما تيسّر لكم من صلاة الليل، عبّر عن الصلاة بالقراءة؛ لأنها بعض أركانها‏.‏ قيل‏:‏ كان التهجُّد واجباً على التخيير المذكور، ثم نسخ بما تيسّر منه، ثم نسخ بالصلوات الخمس‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏فاقرؤوا ما تيسَّر‏}‏ أي‏:‏ في صلاة الفرض، فيكون الأمر للوجوب، وعيّنَ مالك قولَه‏:‏ ‏{‏ما تيسّر‏}‏ بالفاتحة، وتركه أبو حنيفة على ظاهره، فأي آية قرأ كفت في الفرض وغيره، والمشهور‏:‏ أن الآية في قيام الليل، وقيل‏:‏ في مطلق التلاوة في كل ليلة‏.‏ قال القشيري‏:‏ يقال‏:‏ من خمس آيات فما زاد، ويُقال‏:‏ من عشر آيات فما زاد‏.‏ ه‏.‏

ونقل ابن عطية عن بعضهم‏:‏ أن الركعتين بعد العشاء مع الوتر داخله في أمثال هذا الأمر، ومَن زاده الله‏.‏ ه‏.‏ وقال الثعلبي‏:‏ ما خفّ وسهل من غير مقدار من القراءة والمدة‏.‏ وقيل هو فرض على أهل القرآن دون غيرهم، أي‏:‏ فيجب عليهم تلاوة القرآن كل ليلة‏.‏ قال الحسن‏:‏ مَن قرأ مائة آية لم يحجّه القرآن، أي‏:‏ لم يغلبه بالحجة‏.‏ ه‏.‏ فمَن قرأ كل ليلة حزباً فقد كفاه ولم يحاسَب عليه‏.‏ ورَوى أبو حنيفة عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«مَنْ قرأَ مائة آية في لَيْلةٍ لم يُكْتَب مِن الغَافلين، ومَن قَرأَ مائتي آية كُتب من القَانتين‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

ثم بيّن الحكمة في النسخ، وهي تعذُّر القيام على المرضى والمسافرين والمجاهدين، فقال‏:‏ ‏{‏عَلِمَ أن سيكونُ منكم مَّرْضَى‏}‏ فيشق عليهم قيام الليل، و«أن» مخففة، والسين دالة على ذلك؛ لأنها تلي «أن» المصدرية، ‏{‏وآخرون يضربون في الأرض‏}‏؛ يُسافرون فيها للتجارة ‏{‏يَبتغون من فضل الله‏}‏ الريح، ويدخل في ابتغاء الفضل‏:‏ تحصيل العلم وزيادة الأولياء‏.‏ ‏{‏وآخرون يُقاتلون في سبيل الله‏}‏ لإعلاء كلمة الله، سَوَّى بين المجاهِد والمكتسِب؛ لأنَّ كسب الحلال جهاد، قال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ أيُّما رجل جَلَبَ شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين، صابراً محتسباً، فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء، وقال ابن عمر رضي الله عنه‏:‏ ما خلق اللهُ موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليَّ من أن أموت بين شِقيْ رحْلي، أضرب في الأرض، أبتغي من فضل الله‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏فاقرؤوا ما تيسّر منه‏}‏ من غير تحمُّل المشاق‏.‏ كرّر الأمر بالتيسير لشدة احتياجهم‏.‏ ‏{‏وأقيموا الصلاةَ‏}‏ المفروضة، ‏{‏وآتوا الزكاةَ‏}‏ الواجبة‏.‏ وهذا يؤيد أنّ الآية مدنية‏.‏ ‏{‏وأَقْرِضوا اللهَ قرضاً حسناً‏}‏، أريد الإنفاقات في سبيل الله من الحلال بالإخلاص، فالقرض لغة‏:‏ القطع، وفي الاصطلاح‏:‏ السلف، فالمنفِق يقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره، وكذلك المتصدِّق يقطع ذلك القدر من ماله فيجعله لله، وأنما أضافه تعالى إلى نفسه؛ لئلا يَمُنّ على الفقير فيما يتصدّق به عليه؛ لأنّ الفقير مُعين له في تلك القُربة، فلا تكون له عليه مِنَّة بل المِنَّة للفقير عليه، حيث قَبِلَه منه‏.‏

‏{‏وما تُقدِّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه‏}‏ أي‏:‏ ثوابه، وهو جواب الشرط ‏{‏عند الله هو خيراً‏}‏ مما خلفتم، أو أخّرتم إلى الوصية عند الموت‏.‏ و‏(‏أخيراً‏)‏ مفعول ثان بتجدوه، وهو ضمير فصل، وجاز وإن لم يقع بين معرفتين؛ لأنّ «أفعل» في حكم المعرفة، ولذلك امتنع من حرف التعريف، ‏{‏وأعظمَ أجراً‏}‏؛ وأجزل ثواباً، ‏{‏واستغفِرُوا الله‏}‏ في كافة أحوالكم، فإنَّ الإنسان لا يخلو من تفريط، ‏{‏إِن الله غفور‏}‏ يستر على أهل الذنوب والعصيان، ‏{‏رحيم‏}‏ يخفّف عن أهل الجهد والتشمير‏.‏

الإشارة‏:‏ أُعطي صلى الله عليه وسلم القوة في الجهتين، فكان قوي الظاهر والباطن؛ ليقتدي به الجميع، فالعُبَّاد والزُهَّاد أخذوا من عبادة الظاهر، من الصيام والقيام، والعارفون المسلكون أخذوا منه عبادةَ الباطن من الفكرة والنظرة، والعكوف في الحضرة، فتهجُّد العُبّاد والزُهّاد والصالحين بالركوع والسجود، وتَهَجُّد العارفين بعكوف القلب في شهود الملك الودود، ومناجاته، والتملُّق بين يديه، وهكذا كانت الصحابة رضي الله عنهم كان فيهم مَن يقوم بالصلاة، ومنهم مَن يقطع ليله في الفكرة، كالصدّيق وأمثاله، «والله يُقدِّر الليل والنهار» قال القشيري‏:‏ يعني يُقدِّر السلوك من ليل الطبيعة إلى نهار الحقيقة، بتقدير الله لا بتقدير السالك‏.‏

عَلِمَ أن لن تحصوه، أي‏:‏ لن تقدروا على مدة ذلك بالوصول إلى الله، والوصول مترتب على فضل الله ورحمته، لا على سلوككم وسيركم، فكم مِن سالك انقطع في الطريق، ورجع القهقرى، كما قيل‏:‏ ليس كل مَن سلك وصل، ولا كل مَن وصل اتصل، ولا كل مَن اتصل انفصل‏.‏ ه‏.‏

‏{‏فاقرؤوا ما تيسّر من القرآن‏}‏، ولا تستغرقوا أوقاتكم في تلاوة حروفه حتى تستكملوا تصفية قلوبكم بذكر الله، لتتهيأ لإشراق أنوار معانيه وأسراره فيها، وأمّا ما دامت القلوب محشوة بصور الألوان، مكدّرة بصدى الهوى والحظوظ، فلا تتمتع بحلاوة أسراره، ولا تتمكن من تدبُّر خطابه، ولأجل هذا كانت الأشياخ تأمر المريد أولاً بمجرد الذكر والرياضة والاستغراق في الاسم المفرد، حتى يتجوهر عقله، وتصفو مرآة قلبه، ويتمكن من مقام الفناء والبقاء، وحينئذ يرجع لتلاوة القرآن، ليجد حلاوته، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏عَلِمَ أن سيكونُ منكم مَرْضى‏}‏ أي‏:‏ مرضى القلوب بحجب الأنانية، والاشتغال بحب الدنيا وشهواتها فلا يظهر عليها مِن أسرار القرآن وحقائقه شيء، ‏{‏وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله‏}‏ وهم الطالبون من العُبَّاد والزُهَّاد، فلا ينالون من باطن القرآن شيئاً، ‏{‏وآخرون يقاتلون في سبيل الله‏}‏، مشتغلون بجهاد أنفسهم، فلا يتفرّغون لتدبُّر كلامه تعالى، فيقال لهم‏:‏ اقرؤوا ما تيسّر منه، وأقيموا صلاة القلوب، بعُكوف الهم على ذكر واحد، وآتوا الزكاة، زكاة أبدانكم بالرياضة والمجاهدة، وأَقرِضوا الله قرضاً حسناً، بأن تقطعوا حب الدنيا من قلوبكم فمَن زهد الدنيا أحبّه الله‏.‏ وما تُقدموا لأنفسكم من خير، كالمجاهدة والمكابدة؛ تجدوه عند الله في الدنيا والآخرة؛ هو خيراً وأعظم أجراً، فتدوم المشاهدة، وتصحبها المكالمة‏.‏ واستغفِروا الله من الالتفات لوجودكم إن وقع، إن الله غفور رحيم‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة المدثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ‏(‏1‏)‏ قُمْ فَأَنْذِرْ ‏(‏2‏)‏ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ‏(‏3‏)‏ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ‏(‏4‏)‏ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ‏(‏5‏)‏ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ‏(‏6‏)‏ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ‏(‏8‏)‏ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ‏(‏9‏)‏ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها المدَّثِّر‏}‏ أي‏:‏ المتدثر أُدغمت التاء في الدال، أي‏:‏ المتلفّف في ثيابه، من الدِّثار، وهو كلُّ ما كان من الثياب فوق الشعار، والشعار‏:‏ الثوب الذي يلي الجسد‏.‏ قيل‏:‏ هي أول سورة نزلت، والصحيح‏:‏ أن أول ما نزل‏:‏ ‏{‏اقرأ باسم رَبِكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ إلى قوله ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 5‏]‏ ثم فتر الوحي نحو سنتين، فحزن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حتى جعل يأتي شواهق الجبال، فيريد أن يتردَّى منها، فأتاه جبريلُ عليه السلام، وقال‏:‏ إنك نبي الله، فرجع إلى خديجة، فقال‏:‏ دثِّروني وصُبوا عليَّ ماءً بارداً، فنزل‏:‏ ‏{‏يا أيها المُدَّثر‏}‏، وقيل‏:‏ سمع من قريش ما كرهه، فاغتم، فتغطّى بثوبه متفكراً، كما يفعل المغتم، فأمر ألاّ يدع إنذارهم وإن آذوه، فقال‏:‏ ‏{‏قُمْ‏}‏ أي‏:‏ من مضجعك أو قيام عزم وتصميم، ‏{‏فأنذِرْ‏}‏ أي‏:‏ فَحذِّر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا، أو فافعل الإنذار من غير تخصيص، كما يُنبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 28‏]‏‏.‏

‏{‏وربَّك فَكَبِّرْ‏}‏ أي‏:‏ خُص ربك بالتكبير، وهو التعظيم قولاً واعتقاداً، فلا يَكْبُرُ في عينك إلاّ الله، وقل عندما يعروك من غيره‏:‏ الله أكبر‏.‏ رُوي أنه لمّا نزل، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الله أكبر» فكبَّرت خديجة وفرحت، وأيقنت أنه الوحي‏.‏ وقد يُحمل على تكبير الصلاة، والفاء بمعنى الشرط، كأنه قيل‏:‏ أيّ شيء حدث فلا تدع تكبيره‏.‏

‏{‏وثيابَك فطهِّرْ‏}‏ مما ليس بطاهر، فإنه واجب في الصلاة، فلا تصح إلاّ بها، ووَصْفُ كمالٍ في غيرها، وذلك بصيانتها عن النجاسات، وغسلها بعد إصابتها، أو قَصِّرْها مخالفةً للعرب في تطويلهم الثياب، وجرهم الذيول كِبراً، فإنَّ طولها يؤدي إلى جرها على القاذورات، وهو أول ما أُمر به صلى الله عليه وسلم من ترك العادات المذمومة، وقيل‏:‏ المراد تطهير النفس مما يُستقبح من الأفعال، ويُستهجن من الأحوال يُقال‏:‏ فلان طاهر الذيل والرداء، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق، ولأنَّ مَن طهر باطنه ظاهره غالباً‏.‏ قال ابن العربي في أحكامه‏:‏ والذي يقول‏:‏ إنها الثياب المَجازية أكثر‏.‏ ه‏.‏ ومَن قال‏:‏ إنها الحسية استدل بها على وجوب غسل النجاسة للصلاة، وبه قال الشافعي، ومالك، في أحدى الروايات عنه‏.‏

‏{‏والرُّجزَ فاهجرْ‏}‏ أي‏:‏ دم على هجرانها، قاله الزهري وغيره‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي‏:‏ اترك المآثم التي توجب الرجز، وهو العذاب، وفيه لغتان‏:‏ كسر الراء، وضمها، وقُرىء بهما معاً‏.‏ قال الكسائي‏:‏ الرُّجز بالضم‏:‏ الوثن، وبالكسر‏:‏ العذاب‏.‏ ‏{‏ولا تمننْ تستكثرُ‏}‏ أي‏:‏ ولا تعطِ مُتكثِّراً، أي‏:‏ رائياً لما تعطيه كثيراً، أو طالباً للكثير على ما أعطيت، فإنك مأمور بأجلّ الأخلاق، وأشرف الآداب، وهو من المنّ بمعنى الإنعام، يُقال‏:‏ مَنَّ عليه إذا أعطاه وأنعم عليه، «وتستكثر»‏:‏ حال، أي‏:‏ لا تُعطِ حال كونك تُعد ما أعطيت كثيراً، أو طالباً أكثر مما أعطى‏.‏

وقرأ الحسن بالجزم جواب النهي‏.‏ ‏{‏ولربك فاصبِرْ‏}‏ أي‏:‏ لوجه الله استعمل الصبر على أوامره ونواهيه، وعلى تحمُّل مشاق أعباء التبليغ وأذى المشركين‏.‏

‏{‏فإِذا نُقِرَ في الناقور‏}‏ أي‏:‏ نُفخ في الصور، وهو فَاعُول من النقر، بمعنى التصويت، وأصله‏:‏ القرع، الذي هو سبب الصوت، والفاء سببية، كأنه قيل‏:‏ اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم هائل، يلْقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى عاقبة صبرك، والعامل في «إِذا» قوله‏:‏ ‏{‏فذلك يومئذٍ يومٌ عسيرٌ‏}‏، فإنَّ معناه‏:‏ عسر الأمر على الكافرين إذا نُقر في الناقور، و«ذلك» إشارة إلى وقت النقر، وهو مبتدأ، و‏{‏يومئذ‏}‏‏:‏ مرفوع المحل بدل منه، و‏{‏يوم عسير‏}‏‏:‏ خبر، كأنه قيل‏:‏ يوم النقر يوم عسير ‏{‏على الكافرين‏}‏، وأكّده بقوله‏:‏ ‏{‏غيرُ يسير‏}‏؛ ليؤذن بأنه يَسيرٌ على المؤمنين، أو عسيرٌ لا يُرجى أن يرجع يسيراً، كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا‏.‏ واختُلف في أن المراد به‏:‏ يوم النفخة الأولى أو الثانية، والحق إنها الثانية؛ إذ هي التي يختص عسرها بالكافرين، وأما النفخة الأولى، فحكمها الذي هو الإصعاق يعم البر والفاجر، على أنها مختصة بمَن كان حيًّا عند وقوعها، وقد جاء في الأخبار‏:‏ أن في الصور ثُقْباً بعدد الأرواح، وأنها تجمع في تلك الثُقب في النفخة الثانية، فتخرج عند النفخ من كل ثقبة روح، فترجع إلى الجسد الذي نزعت منه، فيعود الجسد كما كان حيًّا، بإذن الله تعالى‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها المتدثر بالعلوم والأسرار والمعارف؛ قُم فأنذر الناسَ، والخطاب للداعي الأكبر صلى الله عليه وسلم، ويتوجه لخليفته في كل زمان، وهو مَن وجَّهه الله لتذكير العباد ليحيي به الدين في أول كل عصر، كما في الأثر‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ يا أيها المدثر، أي‏:‏ يا أيها الغريق في قَلزوم القِدم، قُم لدعوى محبتي، وأنذر أحبائي عن الاشتغال بغيري، وأَظْهِر جواهر حقائب بحر غيبي للمقبلين إلينا‏.‏ ثم قال على قوله‏:‏ ‏(‏وربك فَكَبِّر‏)‏، عن الحُسيْن‏:‏ عَظِّم قدره عن احتياجه إليك في الدعوة إليه، فإنَّ إجابة دعوتك ممن سبقت له الهداية مني‏.‏ ه‏.‏ قال القشيري‏:‏ كبِّر ربك عن احتياجه إلى تكبير أحد، فإنَّ كبرياءه ذاتيٌّ له، قائم بنفسه، لا بغيره من المكبِّرين‏.‏ ه‏.‏ والمتبادر أنه أمَرَ الداعي بتعظيم الله وإجلاله دون غيره من سائر المنذرين، فلا تمنعه جلالة أحد من العظماء والمتكبرين عن التصدَّي لإنذاره وتذكيره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وثيابك فطهِّر‏}‏ أي‏:‏ نَزّه ثياب إيمانك وعرفانك عن لوث الطمع في الخلق، وخصوصاً عند الدعوة، فلا تسأل عليه أجراً، ولا تؤمّل في جانبه عوضاً، فتُحرم بركة إنذارك، ويقلّ الانتفاع به‏.‏

وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه‏:‏ رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال‏:‏ يا علي، طَهِّر ثيابك من الدنس، تَحْظَ بمدد الله في كل نَفَس، فقلتُ‏:‏ وما ثيابي يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ إنَّ الله كساك حُلة المعرفة، ثم حُلة المحبة، ثم حُلة التوحيد، ثم حُلة الإيمان، ثم حُلة الإسلام، فمَن عرف الله صَغُر لديه كل شيء، ومَن أحبّ الله هان عليه كل شيء، ومَن وحّد الله لم يشرك به شيئاً، ومَن آمن بالله أَمِن من كل شيء، ومَن أسلم لله قلّما يعصيه، وإن عصاه اعتذر إليه، وإذا اعتذر إليه قَبِل عُذره‏.‏ قال‏:‏ ففهمتُ حينئذ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وثيابك فَطَهّر‏}‏‏.‏ ه‏.‏ والرُّجز‏:‏ كلُّ ما يشغل عن الله، فيُهجر اشتغالاً بالله، ولا تمنن ببذل مُهجتك على ربك، مستكثراً لذلك، فإنَّ قيمة وجودك لا تُساوي عُشر العشر من عظمة وجوده، الذي يمنحك بدلاً من وجودك الذي أعطيته، أو‏:‏ ولا تمنن عليه بوجودك تطلب وجوده، فإنَّ وجوده إنما يُنال بكرمه، لا بشيء من العلل، ولربك فاصبر، أي‏:‏ ولأجل الوصول إلى ربك فاصبر على مشاق السير، أو‏:‏ ولربك فاصبر على إذاية الخلق في حال الدعوة‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ ولربك فاصبر في بذل وجودك في جريان تقديره، أو مع ربك، وفي ربك، حين انكشف لك أنوار أسراره، وخاصيتُكَ في النظر إلى جلاله وجماله، ولا تنزعج، فتسقط عن درجة التمكين‏.‏ وقال القاسم‏:‏ ولربك فاصبر تحت القضاء والقدر‏.‏ ه‏.‏ فإذا نُقر في الناقور‏:‏ نُفخ في صور الفناء، فتندك السموات والأرض، بإظهار ما فيها من الأسرار، فتُطوى عن نظر العارف، فيفنى مَن لم يكن، ويبقى مَن لم يزل، فذلك يوم عسير على الكافرين بطريق الخصوص؛ إذ لا تنهدم العوالم لعين البصيرة إلاَّ لمَن هدم عوائد نفسه، وخالف هواه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 30‏]‏

‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ‏(‏12‏)‏ وَبَنِينَ شُهُودًا ‏(‏13‏)‏ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ‏(‏15‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا ‏(‏16‏)‏ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ‏(‏17‏)‏ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ‏(‏18‏)‏ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ نَظَرَ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ‏(‏25‏)‏ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ‏(‏26‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ‏(‏27‏)‏ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ‏(‏28‏)‏ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ‏(‏29‏)‏ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ذَرْنِي ومَنْ خلقتُ‏}‏ أي‏:‏ كِلْ أمره إليَّ فأنا أكفيك أمره، وهو الوليد بن المغيرة، وقوله‏:‏ ‏{‏وحيداً‏}‏‏:‏ حال من عائد الموصول، أي‏:‏ خلقته منفرداً، لا مال له ولا ولداً، أو من الياء، أي‏:‏ ذرني وحدي معه، فأنا أكفيكه، أو من التاء، اي‏:‏ خلقته وحدي ولم يشاركني في خلقه أحد، والأول أنسب بقوله‏:‏ ‏{‏وجعلتُ له مالاً ممدوداً‏}‏؛ مبسوطاً كثيراً، أو ممدوداً بالنماء، وكان له الزرع والضرع والتجارة، وعن مجاهد‏:‏ له مائة ألف دينار، وكان له أرض بالطائف، لا تنقطع ثمارها صيفاً وشتاءً، ‏{‏وبنينَ شُهوداً‏}‏؛ حضوراً معه بمكة لغناهم، يتمتع بشهودهم، لا يفارقونه لعمل، لكونهم مكُفيين، أو حضوراً في الأندية والمحامل لوجاهتهم، واعتيادهم، وكانوا عشرة، وقيل‏:‏ ثلاثة عشر، وقيل‏:‏ سبعة، كلهم رجال، الوليد بن الوليد، وخالد، وعمار ة، وهشام، والعاصي، وقيس، وعبد شمس، أسلم منهم خالد وهشام وعمارة، وجعل السهيلي بدل عمارة الوليدَ بن الوليد، وهو الصحيح، وفيه قال عليه السلام‏:‏ «اللهم أنج الوليد بن الوليد» حين كان يُعذّب بمكة على الإسلام، والوليد هذا كان سبب إسلام أخيه خالد، وكان خالد فارًّا منه صلى الله عليه وسلم، فسمع الوليدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «لو أتانا لاأكرمناه»، فكتب إليه، فوقع الإسلام في قلبه، وسمّاه سيفاً من سيوف الله، به فتح الله كثيراً من البلدان، وأما عُمارة فذكر غيرُ واحد أنه مات مشركاً عند النجاشي، ويروى أنَّ النجاشي قتله بسبب اختلافه إلى زوجته، ووشى به عَمْرُو بن العاص، كما ذكره الطيبي‏.‏ انظر المحشي‏.‏

‏{‏ومَهَّدتُ له تمهيداً‏}‏ أي‏:‏ بسطت له الجاه العريض، والرياسة، حتى كان يُلقَّب ريحانة قريش، فأتممت عليه نعمتَي الجاه والمال، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا، ‏{‏ثم يطمعُ أن أزيدَ‏}‏ على ما أوتيه من المال والولد والجاه من غير شكر، وهور استبعاد واستنكارٌ لطمعه وحرصه‏.‏ وعن الحسن‏:‏ يطمع أن أزيده الجنة، فأعطيه فيها مالاً وولداً، كما قال العاصي‏:‏ ‏{‏لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 77‏]‏، وكان من فرط جهله يقول‏:‏ إن كان محمد صادقاً فما خُلقت الجنة إلاَّ ليَ‏.‏

‏{‏كلاَّ‏}‏‏:‏ ردع وزجر عن طمعه الفارغ، وقطع لرجائه الخائب، أي‏:‏ لا نجمع له بعد اليوم بين الكفر والمزيد من النِّعم، فلم يزل بعد نزول الآية في نقصان من المال والجاه، وانتكاس، حتى هلك، ‏{‏إِنه كان لآياتنا‏}‏؛ القرآن ‏{‏عنيداً‏}‏؛ معانداً جاحداً، وهو تعليل للردع على وجه الاستئناف، كأنّ قائلاً قال‏:‏ لِمَ لا يُزاد‏؟‏ فقال‏:‏ إنه عاند آيات المنعِم، مع وضوحها، وكَفَرَ نعمته مع سُبُوغها، وهو مما يوجب حرمانها بالكلية، مع أن ما أوتيه إنما هو استدراج يوجب مزيد العذاب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏سأُرهقه صَعوداً‏}‏؛ سأُغشيه بدل ما يطمعه من الجنة عقبة شاقة المصْعد، وهو مثل لِما يلقى من العذاب الصعب الذي لا يُطاق، وفي الحديث‏:‏

«الصعود‏:‏ جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً»‏.‏

ثم علّل استحقاقه لهذا العذاب بقوله‏:‏ ‏{‏إِنه فَكَّر‏}‏ ما يقول في شأن القرآن، ‏{‏وقَدَّر‏}‏ في نفسه ما يقوله وهياه، كأنه تعالى عاجله بالفقر والذل بعد الغنى والعز لعناده، ويُعاقبه في الآخرة بأشد العذاب، لبلوغه بالعناد غايته، حيث قال في كلامه تعالى المعجِز‏:‏ سحراً، وفي رسوله عليه السلام‏:‏ ساحراً، ‏{‏فقُتل‏}‏ أي‏:‏ لُعن ‏{‏كيف قَدَّر ثم قُتل كيف قَدَّر‏}‏ ‏؟‏ كرّر للتأكيد، و«ثم» للإشعار بأنَّ الدعاء الثاني أبلغ، وقيل‏:‏ هو تعجيب من تقديره وإصابته فيه الغرض الذي كان ينتحيه قريش، قاتلهم الله، كما يقال‏:‏ قاتله الله ما أشجعه، وأخزاه الله ما أشعره‏!‏ رُوي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ «حم» غافر، أو فُصلت، ثم رجع إلى بني مخزوم فقال‏:‏ والله لقد سمعتُ من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لَطلاوة، وإنَّ أعلاه لمُثمر، وإنَّ أسفله لمُغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه، فقالت قريش‏:‏ صبأ والله الوليد، لتَصْبُوَنّ قريش كلها، فقال ابن أخيه أو جهل‏:‏ أنا أكفيكموه، فانطلق إليه حزيناً، فقال له‏:‏ ما لي أراك حزيناً‏؟‏ فقال‏:‏ وما لي لا أحزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كِبر سنك، يزعمون أنك زيّنت كلام محمد، تدخل على ابن أبي كبشة وأبي قحافة، لِتنال من طعامهم، فغضب الوليد، وقصدهم، وقال‏:‏ تزعمون أنَّ محمداً مجنون، فهل رأيتموه يُخْنِقُ قط‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ تزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط‏؟‏ قالو‏:‏ لا، قال‏:‏ تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهّن قط‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ تزعمون أنه كذّاب، فهل جريتم عليه من الكذب قط‏؟‏ قالوا‏:‏ اللهم لا، ثم قالوا له‏:‏ فما هو‏؟‏ ففكَّر فقال‏:‏ ما هو إلاَّ ساحر، أمّا رأيتموه يُفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه‏؟‏ وما الذي يقوله إلاّ سحر يأثره عن أهل بابل، فارتجّ النادي فرحاً، وتفرّقوا معْجبين بقوله متعجبين منه، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏إنه فكَّر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

‏{‏ثم نَظَرَ‏}‏ أي‏:‏ في القرآن مرة بعد مرة، أو نظر بأي شيء يَرُدُّ الحقَّ، أو فيما قدّر، ‏{‏ثم عَبَسَ‏}‏؛ قطَّب وجهه لمَّا لم يجد فيه مطعناً، ولم يدرِ ماذا يقول، وقيل‏:‏ نظر في وجوه الناس، ثم قطَّب وجه، ‏{‏وبَسَرَ‏}‏؛ زاد في العبوسة والكلوح، ‏{‏ثم أدبرَ‏}‏ عن الحق، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏واستكبر‏}‏ عن اتباعه، و‏{‏ثم نظر‏}‏‏:‏ عطف على ‏(‏قَدَّر‏)‏، والدعاء اعتراض، وإيراد «ثم» في المعطوفات لبيان أنَّ بين الأفعال والمعطوفة تراخياً أو تفاوتاً، ‏{‏فقال إِنْ هذا إِلاّ سِِحْر يُؤثَرُ‏}‏ أي‏:‏ يُروى ويُتعلم، والفاء للدلالة على أنَّ هذه الكلمة لمّا خطرت بباله تفوَّه بها من غير تَلعثم ولا تلبُّث وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ قولُ البشرِ‏}‏ تأكيد لِما قبله، ولذلك أخلى عن العاطف‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏سأُصليه‏}‏؛ سأُدخله ‏{‏سَقَر‏}‏، وهو بدل من ‏{‏سأُرهقه صَعُوداً‏}‏ وسقر‏:‏ علم لجهنم، ولم ينصرف للتعريف والتأنيث، ‏{‏وما أدراك ما سَقَرُ‏}‏، تهويل لشأنها، ‏{‏لا تُبقي ولا تَذرُ‏}‏، بيان لحالها، أي‏:‏ لا تُبقي شيئاً يُلقى فيها إلاَّ أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يُعاد، أو‏:‏ لا تُبقي لحماً، ولا تّذرُ عظماً، أو‏:‏ لا تُبقي لحماً إلاّ أكلته، ولا تدع أن تعود عليه أشد ما كانت، وقال الضحاك‏:‏ إذا أخذت فيهم لم تُبق منهم شيئاً، وإذا أُعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم، ولكل شيء فترة ومَلالة إلاّ جهنم‏.‏ ه‏.‏

‏{‏لوَّحاةٌ للبَشرِ‏}‏ أي‏:‏ مغيّرة للجلود حتى تُسوّدها، تقول العرب‏:‏ لاحته الشمس ولوَّحته، أي‏:‏ غيَّرته، قيل‏:‏ تلفح الجلد لفحة، فتدعه أشد سواداً من الليل، وقال الحسن‏:‏ تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً، نظيره‏:‏ ‏{‏وَبُرِزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 91‏]‏ والبشر‏:‏ اسم، جمع بشرة، وهي ظاهر جلد الإنسان، ويجمع أيضاً على أبشار، ‏{‏عليها تسعةَ عشرَ‏}‏ أي‏:‏ على أمرها تسعة عشر ملكاً، خزنتُها، وقيل‏:‏ تسعة عشر صِنفاً من الملائكة، وقيل‏:‏ صفًّا، وقيل‏:‏ نقيباً‏.‏ قيل‏:‏ الحكمة في تخصيص هذا العدد لخزنة جهنم؛ أن ذكرهم الذي يتقوَّون به البسلمة، وذلك عدد حروفها‏.‏ ه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ هذه الآية تَجُر ذيلها على كل مَن آتاه الله المالَ والجاه البنين، ثم جعل ينتقد على أولياء الله، ويحتقر أهل النسبة، بل على كل مَن يُطلق لسانه في أهل النسبة يناله ما نال الوليد؛ لأنه كان لآيات الله وهم خاصة أوليائه عنيداً جاحد القلب، وحاسداً، سأُرهقه صَعُوداً، أي‏:‏ عذاباً متعباً له، في الدنيا بالحرص والطمع، وفقر القلب، وكذا العيش في الآخرة بسدل الحجاب، والطرد عن ساحة المقربين، إنه فَكَّر فيما يكيد به أولياءه، وقَدّر ذلك، فلُعن كيف قَدّر، ثم نظر إليهم فعبس وبسر‏.‏ قلت‏:‏ وقد رأيتُ بعض المتفقهة المتجمدين، إذا رأوا أحداً من أهل التجريد، عبسوا وقطَّبوا وجوههم، ولووا رؤوسهم، لشدة حَنقهم على هذه الطائفة، نعوذ بالله من الحرمان‏.‏ وكل ما رُمي به صلى الله عليه وسلم من السحر وغيره قد رُمي به خلفاؤه، فيُقال لمَن رماهم وعابهم‏:‏ سأُصليه سقر، نار القطيعة والبُعد، لا تٌبقي له رتبة، ولا تذر له مقاماً ولا جاهاً عند الله، تُزيل عنه سيما العارفين ومهجة المحبين وتغير بشريته بالكآبة والحسرة، والتأسُّف عن التخلُّف عن مقام المقربين، عليها، أي‏:‏ على النار المحيطة بهم، تسعة عشر حجاباً؛ حجاب المعاصي القلبية والقالبية، ثم حجاب الغفلة، ثم حُب الدنيا، ثم حب الهوى، ثم الحسد، ثم الكفر، ثم الحقد، ثم الغضب، ثم حب الظهور، ثم حب الجاه، ثم الطمع، ثم الحرص، ثم خوف الفقر، ثم هَم الزرق، ثم خوف الخلق، ثم التدبير والاختيار، ثم العَجَلة، ثم الرعونة، ثم حجاب الحسد والوهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 37‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ‏(‏31‏)‏ كَلَّا وَالْقَمَرِ ‏(‏32‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ‏(‏33‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ‏(‏35‏)‏ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ‏(‏36‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما جعلنا أصحابَ النار‏}‏ أي‏:‏ خزنتها، المدبّرين لها، القائمين بتعذيب أهلها، ‏{‏إِلاَّ ملائكةً‏}‏ لأنهم خلاف جنس المعذّبين، فلا تأخذهم الرأفة والرقّة، ولأنهم أشد الخلقِ بأساً، فللواحد منهم قوة الثقلين، ونَعَتهم صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «كَأَنَّ أعْيُنَهُمُ البَرقُ، وكأنَّ أفْواهَهم الصَّيَاصِي، يَجرُّون أشعَارَهم، لأحدِهم قوةُ الثَّقَلَيْنِ، يَسوقُ أحدُهُم الأُمَّةَ، وعَلَى رَقَبَتِهِ جَبَلٌ فَيَرْمِيهم في النَّارِ، ويَرْمي الجبلَ عَلَيْهم» وفي رواية‏:‏ «بيد كُلِّ واحدٍ منهم مِرْزَبَّة مِن حَديدٍ» وفي رواية عن كعب‏:‏ «مَعَ كُلِّ واحد مِنْهم عَمودٌ وشعبتَان يَدْفع به الدَّفَع يصرع به في النَّارٍ سَبعمَائَة أَلْفٍ، وبَيْن مِنْكَبَي الخازِنِ مِن خزَنَتِها مسيرةُ مَائةِ سَنَة» وفي حديث آخر‏:‏ «ما بَيْن منكبي أَحَدهِم كَما بَيْن المشرقِ والمغرب، وليس في قلوبِهِمْ رَحْمَةٌ، يَضْربُ أحدُهم الرجلَ ضَربةً، فيتْركه طَحيناً من لَدُن قَرْنِه إلى قَدَمِهِ» وعن كعب‏:‏ «يؤمر بالرجل إلى النار، فيبتدره مائة ألف ملك» قال القرطبي‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏عليها تسعة عشر‏}‏ رؤساؤهم، وأما جملة الخزنة فلا يعلم عددهم إلا الله تعالى‏.‏ انظر البدور السافرة‏.‏

رُوي أنه لمّا نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عليها تسعة عشر‏}‏ قال أبو جهل‏:‏ أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، وأنتم ألدَّهم، أي‏:‏ الشجعان‏؟‏ فقال أبو الأشد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش‏:‏ أنا أكفيكم سبعة عشر، اكفوني أنتم اثنين، فنزلت الآية، أي‏:‏ وما جعلناهم رجالاً من جنسكم يُطاقون‏.‏

‏{‏وما جعلنا عِدَّتهم‏}‏ تسعة عشر ‏{‏إِلا فتنةً‏}‏ أي‏:‏ ابتلاء واختباراً ‏{‏للذين كفروا‏}‏ حتى قال أبو جهل ما قال، أي‏:‏ وما جعلنا هذا العدد إلاّ سبب افتتانهم، فعبّر بالأثر عن المؤثّر، وليس المراد جعل ذلك العدد في نفس الأمر فتنة؛ بل جعله في القرآن أيضاً كذلك، وهو الحُكم بانّ عليها تسعة عشر، إذ بذلك يتحقق افتتانهم، وعليه يدور ما سيأتي من استيقان أهل الكتاب، وازدياد المؤمنين إيماناً‏.‏ انظر أبا السعود‏.‏ وقالوا في تخصيص الخزنة بهذا العدد مع أنّه لا يطلب في الأعداد العلل‏:‏ أنّ ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار، وستة منهم يسوقونهم، وستة يضربونهم بمقامع من الحديد، والآخر خازن جهنّم، وهو مالك، وهو الأكبر‏.‏ وقيل‏:‏ في النار تسعة عشر دركاً، قد سلّط على كل درك مَلك، وقيل يُعذبون فيها بتسعة عشر لوناً من العذاب، وعلى كل لون ملك موكّل، وقيل غير ذلك‏.‏

‏{‏لِيستيقنَ الذين أُوتوا الكتاب‏}‏، لأنَّ عدتهم تسعة عشر في الكتابَيْن فإذا سمعوا مثلها في القرآن تيقّنوا أنه مُنزَّل من عند الله، وهو متعلق بالجعل المذكور، أي‏:‏ جعلناهم كذلك ليكتسبوا اليقين بنبوته صلى الله عليه وسلم، وصِدْقِ القرآن، لموافقته لِما في كتبهم، ‏{‏ويزداد الذين آمنوا‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏إِيماناً‏}‏ لتصديقهم بذلك، كما صدّقوا بسائر ما أُنزل، فيزيدون إيماناً مع إيمانهم الحاصل، أو‏:‏ يزداد إيمانهم تيقُّناً؛ لما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم، ‏{‏ولا يرتابَ الذي أوتوا الكتاب والمؤمنون‏}‏، تأكيد لِما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان، ونفي لما قد يعتري المستيقن من شُبهة ما، وإنما لم ينظم المؤمنين في سلك أهل الكتاب في الارتياب، حيث لم يقل‏:‏ ولا يرتابوا؛ للتنبيه على تباين النفيين حالاً، فإنَّ انتفاء الارتياب عن أهل الكتاب مما ينافيه لِما فيه من الجحود، وعن المؤمنين لما يقتضيه من الإيمان، وكم بينهما‏؟‏ والتعبير عنهم باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المُنبئة عن الحدث؛ للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازدياده ورسوخهم في ذلك‏.‏

قاله أبو السعود‏.‏

وعطف على ‏{‏يستيقن‏}‏ ايضاً قولَه‏:‏ ‏{‏ولِيقولَ الذين في قلوبهم مرض‏}‏؛ شك؛ لأنَّ أهل مكة كان أكثرهم شاكين، أو‏:‏ نِفاق، فيكون إخباراً بما سيكون بالمدينة بعد الهجرة، ‏{‏والكافرون‏}‏؛ المشركون بمكة، المُصرُّون على الكفر‏:‏ ‏{‏ماذا أراد اللهُ بهذا مثلاً‏}‏ ‏؟‏ أي‏:‏ أيُّ شيءٍ أراد بهذا العدد المستغرَب استغراب المثل‏؟‏ وقيل‏:‏ لمّا استبعدوه حسبوا أنه مَثَل مكذوب، أو‏:‏ أيُّ حكمة في جعل الملائكة تسعة عشر، لا أكثر أو أقل‏؟‏ وإيراد قولهم هذا بالتعليل، مع كونه من باب فتنتهم؛ للإشعار باستقلاله بالبشاعة‏.‏ و«مثلاُ»‏:‏ تمييز، أو حال، كقوله‏:‏ ‏{‏هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ ءَايَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏‏.‏ ‏{‏كذلك يُضل اللهُ مَن يشاء ويهدي مَن يشاء‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الضلال وتلك الهداية يُضل الله مَن يشاء إضلاله، بصرف اختياره إلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله الناطقة بالحق، ويهدي مَن يشاء هدايته بصرف اختياره عند مشاهدته تلك الآيات إلى جانب الهُدى، فمحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ يُضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء، إضلالاً وهدايةً كائنين مثل ما ذكر من الإضلال والهداية‏.‏

‏{‏وما يعلمُ جنودَ ربك‏}‏ أي‏:‏ جموع خلقه، التي من جملتها الملائكة المذكورون، ‏{‏إلاّ هو‏}‏، إذ لا سبيل لأحد إلى حصر مخلوقاته، والوقوف على حقائقها وصفتها، ولو إجمالاً، فضلاً عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها، من كَم وكيف ونسبة، فلا يَعِز عليه جعلُ الخزنة أكثر مما هو عليه، ولكن في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها، ‏{‏وما هي إِلاّ ذِكرَى للبشر‏}‏ هذا متصل بوصف سقر، أي‏:‏ ما سقر وصفتها إلاّ تذكرة للبشر؛ لينزجروا عن القبائح‏.‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏؛ ردع لمَن أنكرها، أو نفي لأن يكون لهم تذكُّر، بعد أن جعلها ذِكرى، أي‏:‏ لا يتذكرون لسبق الشقاء لهم، ‏{‏والقمرِ‏}‏، أقسم به لِعظم منافعه، ‏{‏والليلِ إِذْ أدبرَ‏}‏ أي‏:‏ ذهب، يقال‏:‏ أدبر الليل ودبر‏:‏ إذا ولّى، ومنه قولهم‏:‏ صاروا كأمس الدابر، وقيل‏:‏ أدبر‏:‏ ولّى، ودَبَر جاء بعد النهار، ‏{‏والصُبحِ إِذا أسفر‏}‏؛ أضاء وانكشف، وجواب القسم‏:‏ ‏{‏إِنها‏}‏ أي‏:‏ سقر ‏{‏لإِحدَى الكُبَرِ‏}‏ جمع كبرى، أي‏:‏ لإحدى الدواهي أو البلايا الكُبْر، ومعنى كونها إحداهن‏:‏ أنها من بينهن واحدة في العِظم لا نظيرة لها، كما تقول‏:‏ هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء‏.‏

‏{‏نذيراً للبشر‏}‏‏:‏ تمميز لإحدى، أي‏:‏ إنها لإحدى الدواهي إنذاراً كقولك‏:‏ هي إحدى النساء جمالاً، أو حال مما دلّت عليه الجملة، أي‏:‏ عظمت منذرة، ‏{‏لمَن شاء منكم أن يتقدَّم أو يتأخّر‏}‏‏:‏ بدل من «البشر»، بإعادة الجار، أي‏:‏ نذيراً لمَن شاء منكم أن يسبق إلى الخير أو يتأخر عنه، وعن الزجاج‏:‏ أن يتقدّم إلى ما أمر به، ويتأخر عما نهى عنه، وقيل‏:‏ «لمَن شاء»‏:‏ خبر، و«أن يتقدّم»‏:‏ مبتدأ، فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ قال المحَشي‏:‏ وحاصله‏:‏ أنّ العبد متمكن من كسب الخير وضده، ولذلك كلّفه؛ لأنه علّق ذلك على مشيئته، وليس حجة؛ لكونه مستقلاً غير مجبور؛ لأنَّ مشيئته مُعلقة على مشيئة الله، ‏{‏وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَهُ تَذْكِرَةُ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 54-56‏]‏، وما نبهت عليه من التمكُّن والاختيار في الظاهر هو فائدة بدل «لمَن شاء» من البشر‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ من أسمائه تعالى الجليل والجميل، فوَكَّل بتنفيذ اسمه الجليل جنوداً يَجرُّون الناسَ إلى أسباب جلاله، من الكفر والعصيان، ووكَّل بتنفيذ اسمه الجميل جنوداً يَجرّون الناسَ إلى أسباب جماله من الهدى والطاعة، وما جعل ذلك إلاّ اختباراً واتبلاءً، لمن يُدبر عنه أو يُقبل عليه، وما جعلنا أصحابَ نار القطيعة إلاّ ملائكة، وهم حُراس الحضرة يملكون النفس، ويقذفونها في هاوية الهوى، وما جعلنا عدتهم تسعة عشر حجاباً كما تقدّم، إلاّ فتنة لأهل الغفلة، الكافرين بوجود الخصوصية، اختباراً لمَن يقف معها، فتحجبه عن ربه، ولمَن يتخلّص منها، فينفذ إلى ربه، ليستيقن أهل العلم بالله حين يطَّهروا منها، ويزداد السائرون إيماناً بمجاهدتهم في التخلُّص منها، ولا يبقى في القلب ريب ولا وَهْم، وليقول الذين في قلوبهم مرض من ضعف اليقين‏:‏ ماذا أراد الله بخلق هذه الأمراض في قلوب العباد‏؟‏ فيُقال‏:‏ أراد بذلك إضلال قوم عن حضرته، بالوقوف مع تلك الحُجب، وهداية قوم، بالنفوذ عنها، وما يعلم جنود ربك القاطعة عنه بقهره تعالى، والموصلة إليه برحمته، إلا هو‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ جنوده‏:‏ عظمته وكبرياؤه وسلطانه وقهره، الذي صدرت منه جنود السموات والأرض، وله جنود قلوب العارفين، وأرواح الموحِّدين، وأنفاس المحبين، التي يستهلك بها كل جبّار عنيد، وكل قهّار عتيد‏.‏ قيل‏:‏ قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنكم لا تقفون على المخلوقات، فكيف تقفون على الأسامي والصفات‏؟‏‏!‏‏.‏ ه‏.‏

ثم حذَّر من سَقَر الحظوظ، والسقوط في مهاوي اللحوظ، وأقسم أنها من الدواهي الكُبَر لِمن ابتُلي بها، حتى سقط في الحضيض الأسفل من الناس، فمَن شاء فليتقدّم إلينا بالهروب منها، ومَن شاء فليتأخر بالسقوط فيها، والغرق في بحرها‏.‏ والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 56‏]‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ‏(‏38‏)‏ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ‏(‏39‏)‏ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏40‏)‏ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏41‏)‏ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ‏(‏42‏)‏ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ‏(‏44‏)‏ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏46‏)‏ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ‏(‏47‏)‏ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ‏(‏48‏)‏ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ‏(‏49‏)‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏(‏50‏)‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ‏(‏51‏)‏ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ‏(‏52‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏53‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ‏(‏54‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏55‏)‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏كلُّ نفس بما كسبتْ رهينةٌ‏}‏ أي‏:‏ مرهونة، محبوسة عند الله تعالى بكسبها‏.‏ ورهينة‏:‏ فعلية، بمعنى مفعولة، وإنما دخلتها التاء، مع أن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، تقول‏:‏ رجل جريح، وامرأة جريح؛ لأنها هنا لم تتبع موصوفاً اصطلاحياً، ومَن قال‏:‏ إنَّ الخبر في معنى الصفة فهي تابعة له، جعل «رهينة» اسماً بمعنى الرهن، كالشتيمة بمعنى الشتم، وقيل‏:‏ إنَّ التاء في رهينة للنقل مع الوصفية للاسمية، لا للتأنيث، كما في نصيحة وذبيحة‏.‏ ه‏.‏ فكل واحد مرهون بذنبه‏.‏

‏{‏إِلاَّ أصحابَ اليمين‏}‏ فإنهم فاكُّون رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم، كما يفك الراهن رهنه بأداء الدَّين، وقيل‏:‏ هم أطفال المسلمين؛ لأنهم لا أعمال لهم يُرهنون بها، وقيل‏:‏ هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، ‏{‏في جنات‏}‏، لا يُكتَنَهُ كُنهها، ولا يُدرك وصفها، أي‏:‏ هم في جناتٍ، والجملة استئناف بياني، كأنه قيل‏:‏ ما بالهم‏؟‏ فقال‏:‏ هم ‏{‏في جناتٍ يتساءلون‏}‏؛ يسأَل بعضهم بعضاً ‏{‏عن‏}‏ أحوال ‏{‏المجرمين‏}‏، فيقول بعضهم لبعض‏:‏ قد سألناهم فقلنا له‏:‏ ‏{‏ما سلككم في سقرٍ‏}‏ ‏؟‏ ف ‏{‏قالوا لم نك من المصلين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ قاله النسفي، ورده أبو السعود، فقال‏:‏ وليس المراد بتساؤلهم أن يسأل بعضُهم بعضاً، على أن يكون كل واحد منهم سائلاً ومسؤولاً معاً، بل صدور السؤال عنهم مجرداً عن وقوعه عليهم، فإنَّ صيغة التفاعل وإن وضعت في الأصل للدلالة على صدور الفعل عن المتعدد، ووقوعه عليه معاً، بحيث يصير كل واحد فاعلاً ومفعولاً معاً، كما في قولك‏:‏ تراءى القوم، أي‏:‏ رأى كُلُّ واحد منهم الآخر، لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني، ويقصد بها الدلالة على الأول فقط فيُذكر للفعل حينئذ مفعول، كما في قولك‏:‏ تراءوا الهلال، فمعنى ‏{‏يتساءلون عن المجرمين‏}‏‏:‏ يسألونهم عن أحوالهم، وقد حذف المسؤول لكونه عيَّن المسؤول عنه، أي‏:‏ يسألون المجرمين عن أحوالهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما سلككم في سقر‏}‏‏:‏ مقول لقول هو حال من فاعل «يتساءلون» أي‏:‏ يسألونهم قائلين‏:‏ أيُّ شيء أدخلكم في سقر‏؟‏ فتأمل ودع عنك ما يتكلّف المتكلفون‏.‏ ه‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ المجرمين مجيبين للسائلين‏:‏ ‏{‏لم نكُ من المصلِّين‏}‏ للصلوات الواجبة، ‏{‏ولم نك نُطعم المسكين‏}‏ كما يُطعم المسلمون، وفيه دلالة على أنّ الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة، ‏{‏وكنا نخوض مع الخائضين‏}‏ أي‏:‏ نشرع في الباطل مع الشارعين فيه، فنقول الباطل والزور في آيات الله، ‏{‏وكنا نُكذِّب بيوم الدين‏}‏؛ بيوم الجزاء والحساب‏.‏ وتأخير ذكر جنايتهم هذه مع كونها أعظم من الكل؛ لتفخيمها، كأنهم قالوا‏:‏ وكنا بعد ذلك مكذِّبين بيوم الدين، ولبيان كون تكذيبهم به مقارناً لسائر جناياتهم المعدودة مستمراً إلى آخر عمرهم، حسبما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى أتانا اليقينُ‏}‏؛ الموت ومقدماته، ‏{‏فما تنفعهم شفاعةُ الشافعين‏}‏ من الملائكة والنبيين والأولياء والصالحين، لأنها خاصة بالمؤمنين، وفيه دلالة على ثبوت الشفاعة للمؤمنين، وفي الحديث‏:‏

«إن من أمتي مَن يدخل الجنة بشفاعته أكثر من ربيعة ومضر»‏.‏

‏{‏فما لهم عن الذكرةِ‏}‏؛ عن التذكير والوعظ بالقرآن ‏{‏معرِضين‏}‏؛ مولّين، والفاء لترتيب ما قبلها من موجبات الإقبال عليه، والاتعاظ به من سوء حال المعرضين، و«معرضين»‏:‏ حال من الضمير الواقع خبراً ل «ما» الاستفهامية، كقولك‏:‏ ما لك قائماً‏؟‏ أي‏:‏ فإذا كان حال المكذّبين به على ما ذكر من سوء الحال‏.‏ فإيُّ شيء حصل لكم حال كونكم معرضين عن القرآن، مع تعاضد الدواعي إلى الإيمان‏؟‏ ‏{‏كأنهم حُمُرٌ‏}‏؛ أي حُمر الوحش ‏{‏مُستنفِرَةٌ‏}‏؛ شديدة النفار، كأنها تطلب النفار من نفوسها‏.‏ وقرأ نافع والشامي بفتح الفاء، أي‏:‏ استنفرها غيرُها، وجملة التشبيه حال من ضمير «معرضين» أي‏:‏ مشبّهين بحُمر نافرة ‏{‏فرّتْ من قسورة‏}‏ أي‏:‏ من أسد فَعْولة من القَسر، وهو القهر، وقيل‏:‏ هي جماعة الرماة الذين يصطادونها، شُبِّهوا في إعراضهم عن القرآن، واستماع ما فيه من المواعظ، وشرودهم عنه بحُمر حدث في نفارها ما أفزعها‏.‏ وفيه مِن ذمهم وتهجين حالهم من تشبيههم بالحُمر ما لا يخفى‏.‏

‏{‏بل يُريد كل امرىءٍ منهم أن يُؤتَى صُحفاً مُنَشَّرةً‏}‏‏:‏ عطف على مُقدّر يقتضيه الكلام، كأنه قيل‏:‏ لم يكتفوا بتلك التذكرة، ولم يَرضوا بها، بل يُريد كل امرىء منهم أن يُؤتى ‏{‏صُحفاً مُنشَّرة‏}‏؛ قراطيس تُنشر وتٌقرأ، وذلك أنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ لن نتبعك حتى تأتي كلَّ واحدٍ منا بكتاب من السماء، عنوانها‏:‏ من رب العالمين إلى فلان بن فلان، يؤمر فيها باتباعك، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزِلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ قالوا‏:‏ إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة، فيها براءته وأمنه من النار‏.‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏، ردع لهم عن تلك الجرأة، وزجر عن اقتراح الآيات، ‏{‏بل لا يخافون الآخرة‏}‏ فلذلك يُعرضون عن التذكرة، لاَ لامتناع إيتاء الصُحف‏.‏ ‏{‏كَلاَّ إِنه تذكرةٌ‏}‏ زجَرهم عن إعراضهم عن التذكرة، وقال‏:‏ إن القرآن تذكرة بليغة كافية، ‏{‏فمَن شاءَ ذكرَه‏}‏ أي‏:‏ فمَن شاء أن يذكره ذكره، وحاز سعادة الدارين، ‏{‏وما يَذْكُرُون‏}‏ بمنجرد مشيئتهم ‏{‏إِلاّ أن يشاء اللهُ‏}‏ هدايتهم فيذكرون، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي‏:‏ وما يذكرون لِعلةٍ من العلل، وفي حال من الأحوال، إلاَّ أن يشاء الله ذلك، وهو تصريح بأنَّ أفعال العباد كلها بمشيئة الله تعالى، وقرأ نافع ويعقوب بتاء الخطاب للكفرة‏.‏ ‏{‏هو أهلُ التقوى‏}‏ أي‏:‏ حقيق با، يُتقى عقابه، ويؤمن به ويُطاع، ‏{‏وأهلُ المغفرةِ‏}‏؛ حقيق بأن يَغفر لمَن آمن به وأطاعه، وعنه عليه السلام في تفسيرها‏:‏ «هو أهل أن يُتّقى، وأهل أن يغفر لمن اتقاه»‏.‏

وفي رواية ابن ماجه والترمذي‏:‏ «قال الله تعالى‏:‏ أنا أهل أن أُتَّقَى، فلا يُجعل معي إله آخر، فمَن اتقى ذلك فأنا أهل أن أغْفر له» قال ذلك عليه السلام لَمّا قرأ الآية‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ قال الورتجبي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل نفس بما كسبت رهينة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، كلُّ واقفٍ مع حال، وملاحظ لمقام، فهو مرتهن، إلاّ مَن تجرّد مما دون الله، وهم أصحاب يمين مشاهدة الحق، فإنهم في جنان قُربه ووصاله‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ كل نفس واقفة مع حالها أو مقامها مرتهنة معه، إلاّ مَن ينفذ إلى شهود الحق، إنه يكون من قبضة اليمين الذين اختارهم الله بمحض الفضل، فهم في جنات المعارف يتساءلون عن الغافلين‏:‏ ما سلككم في سقر السقوط من درجة القُرب والوصال‏؟‏ قالوا‏:‏ لم نك من المُصلِّين الصلاة الدائمة، ولم نك نُطعم المسكين، بل كنا بُخلاء بأموالنا وأنفسنا، وكنا نخوض في أودية الدنيا مع الخائفين، وكنا نُكذّب بيوم الدين؛ لأنَّ أفعالهم كانت فعل مَن لا يُصدّق بيوم الحساب، حتى أتانا اليقين بعد الموت، فندمنا، فلم ينفع الندم وقد زلّت القَدَم، فما تنفع فيهم شفاعة الشافعين، حيث ماتوا غافلين؛ لأنَّ الشفاعة لا تقع في مقام القُرب والاصطفاء، فمَن مات بعيداً بسبب الغفلة لا يصير قريباً، ولو شفع فيه ألف نبي وألف وَلِيّ، إذ القُرب على قدر الكشف، وكشف الحجاب عن الروح إنما يحصل في هذه الدار، لقوله عليه السلام‏:‏ «يموت المرء على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه» وإنما تقع الشفاعة في النجاة، أو في الدرجة الحسية، والله تعالى أعلم‏.‏ فما لهم، أي‏:‏ لأهل الإعراض عن المذكِّر، عن التذكرة منه مُعرضين، كأنهم حُمر الوحش فرّت من قسورة، وتشبيههم بالحُمر في البلادة والجهل، وكل مَن طلب الكرامة من الأولياء فهو كاذب في الطلب، إذ لو صدق في الطلب لأراه الله الكرامات على أيديهم كالسحاب، كلاَّ بل لا يخافون الآخرة، ولو خافوها وجعلوها نُصب أعينهم لما توقّفوا على كرامة ولا معجزة، والأمر كله بيد الله، هو أهل التقوى وأهل المغفرة‏.‏ وبالله التوفيق، وصلّى الله سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏